الاثنين، يوليو 04، 2011

العسكري الراقص :بلال فضل


إذن لم ينفد بعد ما لدينا من مخزون الانحطاط، انتظرونا تجدوا ما يدهشكم بقدرتنا الدائمة على ارتجال الانحطاط. هل ظننتم أن الجمال والبغال والحمير والعصي الكهربائية والخشبية كانت آخرنا، لا يا سادة، الآن إليكم العسكري الراقص.


 
أي واقعية سحرية يدعيها أدباء أمريكا اللاتينية؟ وإذا كانت الواقعية السحرية تعني أن تطير سيدة بصحبة ملاياتها إلى السماء، أو أن تجري الدماء كالأنهار في شوارع قرية، فبماذا نسمي ما حدث قبل أيام في قلب القاهرة: عسكري أمن مركزي يقف في خضم مظاهرة حامية الوطيس، حيث يتبادل زملاؤه قذف الطوب مع المتظاهرين إلى حين يأتي إمداد قنابل الغاز من المخزن، هو دونا عنهم يمسك بسيف حديدي لا يعلم أحد من صرفه له ومن أقنعه أنه يصلح لفض مظاهرة، ولا ما هي اللحظة النفسية التي جعلته يلوح بسيفه في الهواء كأنه يحارب جيشا متخيلا من الاسكتلنديين الراغبين في الانفصال، قبل أن يتطور الأمر فيضع السيف فجأة موضع مساءلة، ربما لكي يثبت أن الطعام المطهو بزيت الكافور لم يؤثر عليه، مشيرا بسيفه إلى المتظاهرين إشارات بذيئة تكشف عن خبرة عتيقة في الجماع استمدها بالتأكيد من عشرات الأفلام الفاضحة التي شاهدها على القهوة المجاورة لمحطة بلدهم قبل أن تندهه نداهة القاهرة وتلقي به في معسكر أمن مركزي لا يعلم إلا الله ماذا قيل له فيه عن المتظاهرين الذين لا ينبغي فقط أن نضربهم بالعصي، بل علينا أن نضاجعهم بسيوف حديدية حفاظا على استقرار الوطن.
منذ أن شاهد أصدقائي كليب العسكري الراقص والأسئلة تنهمر دون إجابات، بعضهم أخذوا يسألون عن طبيعة الأفكار التي تلقاها ذلك العسكري من الضابط الذي يرأسه، خصوصا أننا لم نشاهد ضابطا يقتحم الصفوف لكي يلطشه قلمين ويسأله «بتهبب إيه يا حمار»، هل كان رئيسه ضابطا من نوعية الضباط الذين يكتبون على حساباتهم في «فيسبوك» أنهم سيفتقون الثوار ويعدون صديقاتهم المحبطات بأنهم سيطلقون الرصاص على المتظاهرين في المرة القادمة «عشان يتربوا»، أم أنه كان ضابطا مثقفا جلس مع عساكره في الثكنة وشرح لهم خطة «فريضم هاوص» لنشر الانحلال في مصر المحروسة بعد أن تم خلع حارس العفة، فقرر العسكري أن يقول للمتظاهرين إنه فقس خططهم الدنيئة وإنه سيفعل بهم ما يزمعون فعله بالحرائر ذوات الخدور.
صديق مخرج اتصلت بي زوجته تطلب مني أن ألحقها، لأن زوجها سيموت من فرط الضحك، فقد شاهد الكليب ثم قرأ أن وزير الداخلية أصدر قرارا بالتحقيق في الواقعة، فتخيل على الفور العسكري، وهو يقوم بإعادة تمثيل الجريمة أمام جهات التحقيق. على العكس تماما ثمة صديق شديد التهذيب استاء بشدة مما رآه، وقال بحزن حقيقي «إيه الكلام الفارغ ده.. إزاي الداخلية تسمح بحركات زي دي.. إحنا متعودين نشوف الحاجات دي متذاعة في ماتشات الكورة بس». صديق آخر مهتم بالتكنولوجيا وتصنيف الأفلام في نفس الوقت انشغل بالسؤال عن أي كلمات مفتاحية سيستخدمها مسؤولو موقع «يوتيوب» لتصنيف ذلك الكليب، ووصل بعد تفكير إلى أنهم سيستخدمون كلمات «قمع أمن مصر بعد الثورة هلوسة سيف ذكري». أما صديقي الذي يعاني من تسرب متكرر للغاز في شقته، فقد أقسم أن ما قام به العسكري الراقص ناتج لا محالة عن تسلله كل ليلة إلى مخزن قنابل الغاز في ثكنة الأمن المركزي وقيامه بفتح قنبلتين وشمهما فقط لكي ينسى امتهان كرامته وآدميته.
صديقي حمدي عبد الرحيم ذكرني بيوم الخامس والعشرين من يناير عندما كنا نتظاهر أمام دار الحكمة ونحن لا نعلم أننا نشهد وقتها ميلاد ثورة شعبية عظيمة، كان عساكر الأمن المركزي المرهقون يصطفون أمامنا غير فاهمين لماذا يهتف البعض دون حماس «يحيا الشرطة ويا الشعب»، ولماذا تفجر الحماس فجأة مع هتاف «يسقط يسقط حسني مبارك»، خلف الجنود تقف نضارات شمسية سوداء طلع لها ضباط، وفي ذات الوقت الذي كانت تسمع فيه بوضوح أصوات تكريعات الضباط الناجمة عن وجبة غذاء جامدة، قال عسكري أمن مركزي لنا «يا عم ارحمونا وروحوا.. إحنا واقفين من الصبح ومفطرناش»، بعد قليل سقط عسكري آخر مغشيا عليه بعد أن أصيب بهبوط حاد، هب المتظاهرون لنجدته في حين نبح كلب من كلاب مبارك بعدها على موقع صحيفته قائلا إن المتظاهرين غلاظ الأكباد ضربوا عسكري أمن مركزي على رأسه فسقط شهيدا، لم نعرف حتى الآن إذا كان العسكري قد أفطر أم لا، لكن ما نعرفه أن نفس العساكر والضباط الذين كان بعضنا يهتفون لهم بأن يحيوا ويا الشعب، عزفوا وصلات ضرب وحشية على أجساد المتظاهرين الذين كانوا يحاولون العبور إلى التحرير، يومها عندما شاهدت آثار الضرب الوحشية على وجه صديقي المخرج عمرو سلامة الذي نجا من الموت بفضل العساكر الذين تعاطفوا معه بعد أن هروه ضربا وقاموا بتهريبه في غفلة عن عين الضابط الذي طلب منهم أن يخلصوا عليه، قلت لحمدي «واضح إن عمرو وقع مع العساكر اللي فطرت النهاردة».
يا الله، كيف وصلنا في ربع قرن فحسب من (أحمد سبع الليل رضوان الفولي) إلى العسكري المضاجع؟ ومن المستفيد من تهشيم تلك الصورة الذهنية الساحرة التي صنعها لنا وحيد حامد وعاطف الطيب وأحمد زكي والتي جعلتنا سنين طويلة لا نري في وجوه عساكر الأمن المركزي المصطفين لإرهابنا وضربنا سوى مشاريع لمتمردين أبرياء فور أن يعرفوا الحقيقة سيفتحون النار على أعداء الوطن الحقيقيين؟ ويا تري لو كان أحمد سبع الليل مشاركا في قمع المتظاهرين هذه الأيام هل كان سيخرج الناي من جيبه ويضعه في موضع عفته ليفعل ما فعله العسكري الراقص؟ ثم بالذمة ألن تتحول المظاهرات القادمة إلى مسخرة فائقة الأبعاد بمجرد أن ننظر في وجوه ضباط وعساكر الأمن المركزي ونسأل أنفسنا من منهم سيخرج الآن سيفه لكي يبدأ في الرقص البذيء؟
وحتى تجد مصر حلا في عساكر الأمن المركزي أو حلا لهم، لا يبقى إلا أن نهتف: عاش المجند أحمد سبع الليل رضوان الفولي.
 التحرير:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق