حتى الآن والحمد لله ما زال الثمن المدفوع رخيصا للغاية، لكن الغموض قاتل، ولا يعلم أحد أبدا كم من الناس يمكن أن يقعوا ضحية له؟ يستطيع الشعب المصري أن يحصل على إجابات فورية لكل الأسئلة التي لديه، ويستطيع الذي يمسك بمقاليد الحكم في البلاد أن يجنب مصر والمصريين كل الأثمان، إذا اختار أن يتوقف فورا عن الغموض، لكنه لا يريد ذلك، وهنا يحضرنا قول الشاعر «كل ده كان ليه؟».
دعونا نسمي الأشياء بأسمائها، عندما نتحدث عن الممسك بمقاليد الحكم، فنحن لا نتحدث عن الراجل البركة عصام شرف، ولا عن وزرائه أيا كان نوع الميدان الذي قدموا منه، بل نتحدث عن المجلس العسكري، وبالتحديد نتحدث عن رئيسه المشير طنطاوي، فكلنا نعلم أن أي مؤسسة عسكرية تؤمن بالهيكل القيادي وتقدس الرتبة الأعلى، ولذلك فاستخدام الجميع دائما تعبير (المجلس العسكري) ليس سوى تعبير عن رغبة في التأدب مع مؤسسة يحترمها المصريون وينتظرون منها أن تلتزم بتعهداتها التي قطعتها على نفسها، عندما أعلنت عن انحيازها لمطالب الشعب.
لذلك على المشير أن يسأل نفسه بصراحة: كيف وصلنا إلى ما نحن فيه الآن؟ أين ذهبت الثقة التي كانت تملأ ملايين الثوار فيه وفي المجلس العسكري، والتي جعلتهم ينصرفون إلى بيوتهم في مشهد لم يحدث في تاريخ الثورات في العالم؟ وأعترف، كما سبق أن قلت، بأنه كان خطأ قاتلا اشتركنا فيه جميعا، وأن أذكى وأصدق وأنبل وأجمل من في مصر هم أولئك الشباب الذين استمروا في الميدان حتى تم اعتقالهم في يوم ٩ مارس، وتمت محاكمتهم عسكريا، وكان ينبغي أن نكون جميعا معهم، فنُعتقل معهم أو نطمئن إلى أن تحقيق مطالب الثورة يسير في مساره الصحيح.
بصراحة على المشير أن يبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة من بينها: لماذا وصلنا في أقل من أربعة أشهر إلى أن يصدق الكثيرون أن مبارك ليس موجودا في مستشفى شرم الشيخ أصلا؟ وحتى الذين يصدقون أنه هناك لديهم ألف سؤال حول التدليل الذي يناله رجل أهان البلاد وأذل العباد، لماذا يصدق الكثيرون أن جمال وعلاء ليسا موجودين في سجن طرة، وأنهما يتجولان في شوارع القاهرة، بينما يرى البعض أنهما موجودان في جناح فندقي فاخر في أكاديمية الشرطة؟ لماذا يصدق الناس أن مبارك لن يحاكم أبدا لأن أمريكا وإسرائيل لن يرضيهما أن يحاكم حليفهما الأول لأنه لو حوكم سيكشف الكثير؟ لماذا أصبح الناس يطلبون أن يروا صورا لرموز النظام المخلوع داخل السجن لكي تطمئن قلوبهم، لماذا يشك الناس في كل حكم يصدر ببراءة هذا أو ذاك، فيخترعون له تفسيرات وتحليلات لا أول لها من آخر، لماذا يظن الناس أن هناك رغبة متعمدة في تأخر التطهير في الداخلية والقضاء والإعلام؟ وقبل كل ذلك وبعده، كل ده كان ليه؟
ما أسهل أن يجد المشير ألف شخص يقسم له أن وراء هذه الأسئلة والشكوك مؤامرة خارجية أو مصالح شخصية أو أطماعا سياسية أو رغبة في تقسيم التورتة، لكنني أقسم بالله العلي العظيم أنه حتى لو كان هناك ألف تقرير يأتيه ليقول له هذا كل يوم، فإن هذا لن يحل المشكلة أبدا، وأن ما سيحل المشكلة كلها هو الوضوح أولا وثانيا وثالثا. لا أدري هل ترفع الأجهزة المعنية إلى مكتب المشير تقارير دقيقة تقول له إن الهتافات المنادية بإسقاطه أصبحت تتعالى يوما بعد يوم في شوارع مصر، أنا شخصيا عندما أستمع إلى تلك الهتافات أستغرب كثيرا من أين أتى الهاتفون بها بيقين يجعلهم متأكدين من أن المشكلة في شخص المشير، وأنه لو رحل فإن كل مطالبهم ستتحقق، خصوصا أن البعض يطالب بإسقاط المشير والفريق سامي عنان أيضا، والبعض الآخر يطالب بإسقاط المجلس العسكري كله، ورغم أن كلامي لن يرضي أحدا من هؤلاء جميعا، فإنني سأقوله لأنني أكتب لكي أرضي ضميري، وليس لكي أرضي الناس، فرضاء الناس غاية لا تُدرك: ببساطة لا أظن أن أحدا من هؤلاء يمتلك تصورا واضحا مقنعا لما ستكون عليه الحال لو فرضنا أن الشعب استجاب لهتافه، الهتافات لا بد أن تعكس مطالب ممكنة وليس أحلاما ملتبسة، عن نفسي خرجت في 25 يناير لكي أهتف (يسقط يسقط حسني مبارك)، لأنني أعرف أنه يمكن أن يسقط فعلا وأن البلد لن تخرب أو حتى ترتبك إذا سقط، بل بالعكس ستكون حالها أفضل ألف مرة لو صدقت النيات، لم أكن سأهتف أبدا بشعار أتشكك في إمكانية تحققه لمجرد أن أبدو ثوريا أكثر من غيري، هذه هي طريقتي في الحياة، لا أُلزم بها أحدا، ولا أغضب إذا اتهمني آخرون بالتخاذل والخيانة فهذا حقهم، لذلك كتبت مرارا وتكرارا، ولن أمل من الكتابة بأن وحدة المؤسسة العسكرية أمر لا غنى عنه لإنقاذ مصر، وأن أي مطالب لمحاسبة هذه المؤسسة والرقابة عليها كما يحدث في أي بلد ديمقراطي هي مطالب مشروعة، لكنها لن تأتي إلا من خلال الديمقراطية وتداول السلطة، وللأسف تلقيت بسبب كتاباتي هذه شتائم من ثوريين متحمسين، لا أشك في نقائهم، لكني أشك كثيرا في جدوى حماسهم العصبي، وأشك كثيرا في أنهم قرؤوا كثيرا عن تاريخ الثورات في العالم، وكيف أنها كانت عندما تفقد قدرتها على رفع مطالب منطقية مرتبطة بمصالح الناس كانت تنتهي دائما بإحضار طغاة جدد إلى كراسي الحكم.
ليهتف من أراد بإسقاط من يريد، ففي الثورات كما في الحياة كل إنسان معلق من عرقوبه، وعلى كل إنسان أن يجتهد في إقناع الناس بمطالبه والحشد لها، لكن ما أعلمه أن المسألة يمكن أن تكون أبسط من هذا كله، المسألة أن الناس لديها أسئلة كلها مشروعة، والإجابات كلها معروفة، لكن أحدا لا يريد أن يعلنها، ولذلك تظل دائرة الغموض تتسع وتنتج طاقة سلبية هائلة تهدد مستقبل البلاد وتنذر بتحول كل الأحلام الجميلة إلى كوابيس مريرة، المسألة كلها قالتها الكاتبة المدهشة نجلاء بدير منذ أيام: هل المشير طنطاوي مهتم بموقعه من التاريخ أم لا؟ أتمنى أن يكون مهتما، أما إذا لم يكن مهتما، فالله أعلى والشعب أعلم
التحرير:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق