الأربعاء، مايو 11، 2011

عبدالحليم قنديل يكتب: درامــــا بـــن لادن



كان موته كحياته، دراما هائلة، روايات متضاربة، دم كثير، وأساطير بلا نهاية.
ابن الأغنياء الذي كانت ترشحه ظروفه لسيرة حياة أخري، ولد وفي فمه ملعقة ذهب، ولد مليونيرا، وابنا لمليادير، وكانت عائلته علي علاقة قربي مع العائلة السعودية المالكة، ثم انتهي إلي الضد بالضبط، أنفق ماله كله لله، وبالطريقة التي اهتدي إليها تفكيره، واختار حياة التقشف، وصار رفيقا للجبال والكهوف، وصديقا لغربة رحلت به إلي أقاصي الأرض، تطارده الدنيا كلها، وتسقط عنه جنسيته السعودية، ويصبح مواطنا عالميا، هويته هي اسمه، وسيرته تمضي كالأساطير، مليارات من البشر يحبونه، ومليارات أخري تكرهه.

اختلف مع تنظيم القاعدة كما شئت، وكاتب السطور يختلف بشدة، ولا يري من أثر إيجابي لمئات فوق مئات من عمليات العنف العشوائي، وبما قد لا يخدم بالتأكيد قضية الإسلام ولا قضية المسلمين، لكن الخلاف شئ، والاعتراف بالحقيقة الإنسانية الفريدة لزعيم التنظيم أسامة بن لادن شئ آخر، فقد هجر الرجل متاع الدنيا وما حملت، وهاجر إلي اختياره، وصار مزيجا من البساطة والتصميم في آن، وفي آلاف الشرائط والصور التي ظهر فيها، يبدو الرجل بلباسه الصحراوي البسيط، جلباب أبيض، وسترة عسكرية مرقطة، وجراب من طلقات الرصاص، وبندقية علي كتفه أحيانا، وفي صوته هدوء سابغ، وملامحه تنطق بالرضا، وعينه النافذة كصقر توحي بإيمان جارف، سبيكة إنسانية لفرد ممتاز حقا، ومن هؤلاء الذين يصنعون التاريخ بامتياز، قد تقول أنه هدم ولم يصنع، وقد يكون لرأيك وجاهة بمنطق ما، لكن بن لادن يظل ملهما لأجيال وراء أجيال، هد اليأس حيلها في بؤس عالم إسلامي واسع، يحكمه رجال بلا ذمة وبلا دين، ينهبون ويقتلون ويخونون، ويتركون بلادهم لقمة سائغة لطمع الغرب ووحشيته، ويتعاملون مع أمريكا علي أنها الرب المعبود، ويشدون رحال الحج عمليا إلي البيت الأبيض، وليس إلي الحجر الأسود في كعبة مكة.

بن لادن ابن المفارقة الصارخة التي جعلتنا مسلمين بلا إسلام حقيقي، وجعلت أغلب أهلنا أذلة، وجعلت بلادنا مزارع مفضلة لمطامع الأقوياء، وجعلتنا ضعفاء رغم قوة الإسلام، ونبل رسالته الهادية، وعظيم تأثيره في النفس الإنسانية، وفي عمارة الكون تعبدا لله الخالق سبحانه، ومن قلب المفارقة بين حالنا وديننا، ولدت أسطورة بن لادن، ترك الرجل نعيمه الشخصي، وذهب لملاقاة الخطر، ليس كدرويش، ولكن كمقاتل، ترك صفقات التجارة، وذهب إلي صفقات السلاح، استفزه الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، ولم يجد حرجا في التعامل مع الأمريكيين، ولا مع أجهزة مخابراتهم، ولا في تعلم دروس الجهاد الأولي من الشيخ عبد الله عزام وغيره، وخرج كالشعرة من العجينة، وألف كتائبه الخاصة جدا، وحول معسكرات التدريب إلي "القاعدة" التي عرف بها اسم تنظيمه فيما بعد، لم تكن قوة الانجذاب إليه في سعة ماله فقط، ولا في فوائض إنفاقه في سبيل ما يؤمن به، وعن طيب خاطر، يزهد الدنيا وما فيها، لم يكن يهرب من الدنيا، بل يتطلع إلي دنيا إسلامية خالصة بحسب فهمه، دنيا جعلته يخاصم الأمريكيين الذين صادقهم في حرب تحرير أفغانستان، ويعي العصر وعلومه، ويدرب أجيالا من العرب الأفغان علي حرب كونية، غير مسبوقة، جعلته زعيما لمعسكر "الإرهاب" بلغة المجتمع الدولي المنافق، وجعلته خصما لمعسكر الشر الذي يقوده سيد البيت الأبيض.

كانت جغرافيا الدنيا كلها دارا لحربه، ووصلت حربه إلي الذروة بهجمات سبتمبر 2001، والتي مثلت أول اختراق لحصانة القلعة الأمريكية منذ هجمات "بيرل هاربور" اليابانية في نهايات الحرب العالمية الثانية، وبرغم وجود تقاسير أخري للهجوم العاصف، إلا أن كاتب السطور يعتقد يقينا بما قاله بن لادن، والذي اعترف بمسئوليته الشخصية عن تدبير وتنفيذ الهجوم، فقد ربي الرجل أجيالا علي صنعة اختراق المستحيل.

ولم يكن للرجل أن يلقي نهاية أفضل مما جرت عليه، فقد عاش كأسطورة ومات كأسطورة، وفشلت أمريكا في أن تعرف مكانه لأكثر من عشر سنوات، وهو الذي كان يتحرك تحت ظل سلاحها، ويتنقل بثقة من كهف إلي آخر، ومن قصر إلي آخر، لا يقيم وزنا لحدود دول، وينتظر الشهادة في أي وقت، وقد لقيها بخيانة واحد من أعوانه، وفي عملية كوماندوز أمريكية لم تتكشف كل أسرارها، وربما لايكون من معني لتساؤلات أثيرت، وربما ستظل تثار لوقت طويل مقبل، ومن نوع التقييم الأخلاقي والقانوني لعملية اغتياله، فحين تكون أمريكا حاضرة في موضوع، فلا معني لسؤال عن قانون أو أخلاق، فكل هذه المعاني مجرد " مناديل كلينيكس " عند الأمريكيين، وللأمريكيين أخلاق القتلة المحترفين، فقد قتل الأمريكيون ملايين من الناس بدم بارد، وأرعبهم أن يقتل منهم الآلاف في هجمات سبتمبر، وهنا جوهر المفارقة التي صنعت أسطورة ابن لادن، فقد رأي ابن لادن - كما علمه دينه - أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن العين بالعين والسن بالسن، وقد بدأت أمريكا القتل، وهي الأظلم حتي لو ركبت أعلي ما في خيلها وحاملات طائراتها.

وحين قتلت أمريكا ابن لادن، فقد كانت تخافه، أطلقوا عليه النار وهو الأعزل من سلاحه، أطلقوا عليه الرصاصة الأخيرة فوهبوه جائزة الشهادة، سكت نبض الرجل، وتوقف قلبه، لكن لم يتوقف خوف الأمريكيين منه، وبدا فرحهم الوحشي بمقتله هلعا حقيقيا من سيرته، وأقدموا علي جريمة إضافية تليق بوحشية الأمريكيين، وألقوا بجثة الرجل في البحر، وحتي لا يكون قبره علي البر مزارا لمحبيه، فهم يخافونه حيا وميتا.

ومن المؤكد أن تنظيم القاعدة لن يموت مع ابن لادن، ربما لأن التنظيم لم يكن تنظيما من الأصل، بل نزعة سرت في نفوس شباب الظاهرة الإسلامية الراديكالية، واجتمعت عليها تنظيمات صغيرة وكبيرة تنشأ هنا أو هناك، وتقع في أسر هوي الشيخ، وتقتدي بسيرته الملهمة، وإن بدا في سلوكها العنيف نشوزا ظاهرا عن خط ابن لادن، فقد كان الرجل عدوا ظاهرا لطغيان أمريكا ومصالحها الكونية، ورد علي الإرهاب الأمريكي بإرهاب مقابل، فيما لم تكن حماسته ظاهرة - بذات القدر - لعمليات إرهاب عشوائي، يسقط فيها عرب ومسلمون، ويتحول فيها القتل إلي حرفة بذاتها، وتنعدم فيها فرص الرؤية الصحيحة، ومن نوع عمليات تدور في مشرق عالمنا العربي ومغاربه، لا تغير نظما، ولا تهدم باطلا، بل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق