وقف علي آخر درجات سلم البطولة ، كشف الخنوع العربي ، كشف فساد الحكام ، وخياناتهم المستمرة لقضايا شعوبهم ، من أجل نيل الرضا السامي من الوغد الأمريكي ، أقيمت علي جنازته الأفراح ، راح الخونة يرشفون كؤوس الخمر الأمريكي ، لتدير رؤوسهم ، وتنسيهم هذا الخوف الذي قبع في صدورهم، يأبي أن يفارقها ، الخوف من كونهم أدوات لعبة يمكن أن تطيح بها شعوبهم في أية لحظة ، الخوف من العقيدة التي كان يؤمن بها جيفارا العرب ، وهي مقاومة المحتل ، الذي يختفي خلف اسم الصليب ، ويرفع راية الحرب علي من أسماهم بالإرهابيين ، وهو في الحقيقة - رغم اختلافنا الشديد جدا مع أسلوبه - بطل نجح في سنوات عمره القليلة أن يذيق أمريكا وحلفاءها ويلات الحرب علي المسلمين .
تبدو الصورة متشابهة إلي حد كبير ، فرغم بعد المدي المكاني بين جواتيمالا التي ولد فيها تشيه جيفارا رغم أنه يحمل الجنسية الكوبية ، وبين أراضي بلاد الحرمين التي يحتلها آل سعود ، والتي ولد فيها أسامة بن محمد بن عوض بن لادن ، ورغم بعد المدي الزماني بين الولادتين ، حيث ولد ارنستو جيفارا - وهو اسمه الحقيقي بالمناسبة لأن كلمة تشيه بالإسبانية تعني المحترم - في عام 1928 وتوفي عام 1967 ، وولد أسامة بن لادن عام 1957 وتوفي عام 2011، إلا ان جينات البطولة التي توارثتها الشخصيتان تشعرك أن الشخصية الجهادية واحدة ، كلاهما حارب أمريكا ، كلاهما قاسي منها المرار ، كلاهما تمزق وهو يري شعبه يعاني من الامبريالية المتعفنة .
درس جيفارا الطب وكان يعاني من الربو فلم يلتحق بالخدمة العسكرية بسببه ، ولكنه سافر في رحلة مع أحد أصدقائه إلي أنحاء القارة الجنوبية الأمريكية، تعلم خلالها الوطنية والنضال. بينما درس أسامة بن لادن الهندسة - البعض يؤكد أنه الاقتصاد - بالسعودية ، وتخرج منها ليعمل في واحدة من شركات المجموعة الاقتصادية العملاقة التي كان يملكها والده ، لم يستمتع أسامة بذلك الرفاهة والبذخ الذي كانت تحيا به أسرته، في الوقت الذي يري فيه فيها مواطنيه من غير ذوي الحظوة لايجدون مايسدون به رمق أبنائهم وقتها ، قرر الدخول في مشروعات خيرية عديدة - رغم سنه الصغيرة - من أجل رعاية الفقراء في السعودية والعالم الإسلامي .هل تتصور أنه وأشقاؤه السبعة عشر ورثوا عن والدهم في مطلع ثمانينيات القرن الماضي مبلغا يقترب من المليار دولار ، 900مليون دولار علي وجه التحديد ، ومع ذلك ترك حياة الدعة والرفاهية ، وسافر في رحلة شاقة ليحارب السوفييت الذين كانوا يحتلون أفغانستان .
بعد أن عاد من رحلته في أمريكا الجنوبية قرر الانضمام لفيدل كاسترو الزعيم الكوبي بعد خروجه من السجن وبدء رحلة التحرير المقدسة في بلده كوبا ، كذلك فعل أسامة ، حمل معه ماله ، وزوجته الأولي وهي ابنة خاله ، إلي رحلة في المجهول ، هناك تعرف إلي عالم آخر تهون فيه الحياة في سبيل الدين، ثم في سبيل الوطن ، يهون فيه المال مادام ينفق مع أجل هدف أسمي من كل البشر ، حتي انتهت الحرب مع السوفييت ، نعم كان هناك عون أمريكي ، سلاح أمريكي ، إستراتيجيات أمريكية ، ولكن أمريكا لم تكن تفعل كل هذا من أجل إعلاء شعار الحرية ، ولكن لخدمة أهداف حربها الباردة مع غريمها التقليدي وقتها الاتحاد السوفييتي ، الذي كانت هزيمته في هذه الحرب بداية النهاية للنظام الشيوعي ، وتحلل الاتحاد الذي قام علي النظام الاشتراكي العقيم ، الذي يرفض قيم الملكية الفردية والتميز الاجتماعي والمهني ، ويعلي صالح الدولة فوق مصالح الشعب .
كتب تحلله هذا تمددا أمريكيا واضحا في المنطقة ، ثم كانت حرب الخليج الثانية التي طالبت فيها السعودية سيدتها أمريكا ، أن تحميها من بطش صدام حسين وجيوشه ، كما فعل في الكويت ، ومن خلال عمالة رئاسية واضحة ، وبائتلاف خائن قاده الرئيس المصري المخلوع مبارك ، احتلت أمريكا العراق ، ونشرت قواعدها العسكرية في الأراضي السعودية . عندها تحركت غريزة الحرية في قلب أسامة ، لم يكن يرضي أن يدنس الأمريكيون أراضي بلاده ، أو العراق مهد الخلافة الإسلامية ، عندها أعلن مع أيمن الظواهري رفيق كفاحه ضد الغزو السوفييتي ، التحالف الإسلامي الأول للحرب علي اليهود والأمريكيين .
التشابه الواضح بين مسيرتي حياة الرجلين رغم البعد الزماني والمكاني ، تحمل دلالات واضحة ، وتبرر في نفس الوقت الاحتفالات التي أقامها الأمريكيون وحلفائهم بسقوط أسامة بن لادن شهيد رصاصة غادرة رغم أنه كان أعزل من السلاح . الدلالات المباشرة ، أن الكراهية الشعبية الأمريكية لكل ماهو عربي وصلت إلي ذروتها ، وكأنهم يردون علي استطلاعات الرأي التي يجرونها بأنفسهم علي المصريين والشعوب العربية المماثلة ، أفاد الكثير من الدراسات أن الغضب الشعبي علي أمريكا لايزال متزايدا ، فمثلا أظهر استطلاع للرأي أجري في ست دول عربية أن ثمانية من كل عشرة أشخاص لديهم آراء سلبية عن الولايات المتحدة وان الحكومات التي تدعمها امريكا لا تحظي بشعبية.
وذكر راديو "سوا" الأمريكي ان الاستطلاع الذي أجرته جامعة ماريلاند ومؤسسة زُغبي الدولية جمع آراء نحو أربعة آلاف شخص علي مدي شهر مارس في السعودية ومصر والمغرب والأردن ولبنان والامارات.وكشف الاستطلاع أن معظم العرب لا يرون أن إيران العدو اللدود للولايات المتحدة، تمثل خطرًا علي العرب وانهم يتعاطفون مع حركة حماس الفلسطينية بشكل أكبر من حركة فتح المدعومة من الولايات المتحدة. وأظهر الاستطلاع ان 61 بالمائة يعتقدون أن العراقيين سيجدون سبيلا للتغلب علي خلافاتهم إذا انسحبت الولايات المتحدة، كما قال 66 بالمائة أنهم لا يثقون في التقارير الاخبارية التي تفيد بأن العنف تراجع علي الإطلاق.
هذا المؤشر يؤكد أن الفرح الهستيري الأمريكي يخفي في حقيقته خوفا دفينا من تصاعد القوي العربية ، سواء كانت دينية أو اقتصادية أو سياسية إلي سطح المشهد العالمي ، لأن هذا يعني في الحقيقة فضح كل الممارسات النظامية الأمريكية التي تنتهك الديمقراطية ، وحتي الآدمية ، وهي التي تطنطن في كل وقت بما تزعمه من رعاية لحقوق الإنسان ، وللأنظمة الديمقراطية التي تزعم تبنيها .
ولكن "هل تعرض بن لادن للخيانة؟" سؤال طرحه روبرت فيسك في الإندبندنت البريطانية عشية مقتل أسامة وأجاب عليه قائلا : بالطبع لا لأن الاستخبارات الباكستانية كانت تعرف مكان تواجد بن لادن دائما فرغم الضجيج الإعلامي الهائل الذي أحاط بمقتل الرجل إلا انه قتل ودفن دون أضواء كما عاش الرجل وتنظيمه بعيدا عن الأضواء محاطا بالسرية والغموض.
إن الثورات التي تجتاح العالم العربي منذ أربعة أشهر فقط تشير إلي موت تنظيم القاعدة سياسيا فقد اخبرني بن لادن عندما التقيته وجها لوجه انه يريد تدمير الأنظمة العربية الموالية للغرب مثل نظام حكم حسني مبارك في مصر وحكم زين العابدين بن علي في تونس وإقامة خلافة إسلامية وخلال الفترة القليلة نهض ملايين العرب وهم مستعدون للشهادة ليس بهدف إقامة الخلافة الإسلامية بل من اجل الحرية والتحرر والديمقراطية وأطاحوا بحكم مبارك وبن علي حتي الآن وهو ما فشل فيه بن لادن.
لقد التقيت بابن لادن ثلاث مرات وبقي سؤال واحد لم أطرحه علي الرجل وكان بودي أن أسأله عن رأيه فيما يجري في الوطن العربي من ثورات وطنية وليست إسلامية يشارك فيها جنبا إلي جنب المسلمون والمسيحيون الذين كان تنظيم القاعدة يقوم بذبحهم.
وبالرغم من أسلوب فيسك الذي يحمل بغضا واضحا للعرب - رغم احترامي الشخصي له ككاتب صحفي متميز - إلا أن السؤال الذي يجيب عليه يحمل تفسيرات كثيرة لكل المواقف التي سبق وطرحناها .
بقي أن نشير إلي أن نهاية حياة جيفارا وبن لادن تشابهت أيضا ، فعندما قتل عملاء الأمريكان في بوليفيا جيفارا ، ألقوا بحثته في الغابات ، وبقيت جثته ضائعة حتي عثر عليها بالصدفة ونقل رفاته إلي كوبا ليدفن بطريقة مهيبة ، بينما قتل أسامة بن لادن برصاصة أمريكية ، وألقيت جثته في المحيط ، والهدف واحد في كلتا الحالتين وهو ألا يتحول القبر إلي مزار يلهم الشعوب الرغبة الدائمة في التحرر ، وهو الكابوس الأمريكي الذي تحلم أن تفيق منه ولا تستطيع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق