الأربعاء، أبريل 20، 2011

عبدالحليم قنديل يكتب: إعــــدام نظـــام




· < قـرار محـاكمة مبـارك وعـائلته ومماليكه أقـرب إلي الشـروع في إعـدام نظـام دفننا تحت الركــام

· < ثورة مصر تفتتح نهاية تاريخ التسلط السعودي الذي لا يخدم الحرمين بقدر ما يخدم الحرامية

كان حلما فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحي حقيقة مرئية بالعين ملموسة باليد، وبفضل من الله ومدد من ثورة الشعب.

كانت الدراما عاصفة علي مدي إحدي عشرة سنة خلت، وتجر معها أيامها الأخيرة الآن، ففي 18يونيو 2000 كانت الصيحة الأولي، وقتها كتبت مقالاً في جريدة «العربي» بعنوان: إني أعترض، وفي 18 يونيو 2011، أي بعد مرور إحدي عشرة سنة باليوم والساعة، تقضي الأقدار أن أتسلم جائزة «أمالفي» الدولية للصحافة، ودون أن أسعي إليها، ولا إلي غيرها، وأن أفوز مع روبرت فيسك الصحفي البريطاني الأشهر، والمعروف بنصرته للقضية العربية، فيما كان قدري مختلفا في التفاصيل، ووضعني في قلب الحوادث، وفي تياراتها المتلاطمة، وعلي جبهتها الساخنة في مصر، وفي معركة شرسة مع أسوأ نظام عرفته مصر في تاريخها الألفي بإطلاق عصوره وجماع أحزانه.

وقبل كل جوائز الدنيا، وبعدها، فقد كانت مصر العائدة من الغيبوبة هي الجائزة الأعظم في حياتي، فعلي مدي رئاستي لتحرير ثلاث صحف هي «العربي» و«الكرامة» و«صوت الأمة»، وطردي من الواحدة بعد الأخري، وحوادث الترويع والتجويع، والخطف والرمي عاريا في صحراء المقطم، ووقفي عن العمل والكتابة في مصر لسنتين كاملتين من مارس 2009 إلي مارس 2011، وعلي مدي فصول الطقس المترب الخانق، ونزول المطارق علي صلعة الرأس، لم يهتز إيماني أبدا بقيامة مصر الآتية،والتي خاطبتها راجيا ملحاً في عناوين كتبي «ضّد الرئيس» عام 2005، و«الأيام الأخيرة» عام 2008، «وكارت أحمرللرئيس» عام 2009، و«الرئيس البديل» عام 2010، وفي مئات ـ قل آلاف ـ الخطابات العامة والمشاركات التليفزيونية الذائعة الصيت، وفي مظاهرات «كفاية وأخوتها»، وفي عشرات الاقتراحات والخطط، بدءا بمظاهرة «كفاية» الأولي في 2004/12/12 ، وإلي مظاهرات 25 يناير 2011، والتي حققت حلما طاردته وطاردني في اليقظة والمنام، ووضعت له شعارا نصه «معاً لخلع الديكتاتور».

كان يقيني -الذي لا يتزعزع - أن قيامة مصر مقبلة زاحفة، وأن الثورة عند طرف الأصبع المرفوع بعلامة النصر وأن غضب مصر الباطن يكفي لصنع ألف ثورة، وأن آبار الغضب الجوفي تبدو طافحة، وأن كل المطلوب هو اللجوء لميدان التحرير، وبكتلة حرجة لا تزيد علي مائة ألف مصري، تكفي لرفع الغطاء عن آبار الغضب، بعدها تنزح الملايين من آبار بلا قرار، وهذا ما جري بالضبط في حوادث الثورة الشعبية المصرية، كانت النبوءة تحقق نفسها، تكونت الكتلة الحرجة، واعتصمت بغضبها الساطع في ميدان التحرير، ثم حدث الخطأ الأمني الخلقي، والذي لا يمكن تجنبه في مثل هذا النوع من النظم المعلقة، لأنك لا تستطيع أن تربي وحشا، ثم تمنعه من نهش الناس، تداعت بوادرالخطأ الأمني الخلقي مساء الثلاثاء 25 يناير بمجزرة السويس، ثم بالقمع الوحشي لنواة المعتصمين الأولي في ميدان التحرير، ووصل الخطأ لذروته الوحشية في دراما الدم علي كوبري قصر النيل، وبعد جمعة الغضب في 28 يناير، صارت الثورة قضاء مقضيا، وانخلع مبارك من كرسي الرئاسة، ثم جري تباطؤ بعد النصر الأول، استدعي الملايين من آبار الغضب مجدداً، وأصبح مبارك وعائلته قيد التحقيق فالمحاكمة.

كان يقيني ـ الذي لا يتزعزع ـ أن محاكمة مبارك قادمة لا ريب فيها، وكانت عندي جملة أثيرة،وردت في الكتب والمقالات والخطابات العامة، وعلي مدي إحدي عشرة سنة تمضي، وهي أن هذا النظام ـ نظام مبارك ـ يستحق أن يحاكم لا أن يحكم، وأن هذه العائلة ـ عائلة مبارك ـ تستحق أن تحاكم لا أن تحكم، وأن هذا الرجل ـ مبارك ـ لا يستحق أن يحكم، بل أن يحاكم.

ومنذ أن عدت لرئاسة تحرير «صوت الأمة» في أوائل مارس 2011، كانت قضيتنا الكبري هي محاكمة مبارك وعائلته، ليس سعيا إلي انتقام، ولا طلبا لشماتة، بل تأكيدا علي معني العدالة، وقطع الرأس الفاسد، والذي ارتكب أحط جرائم الخيانة العظمي بحق هذا البلد، ويستحق الإعدام ألف مرة، وفي ميدان التحرير عاصمة مصر الجديدة.

وبقدر ما كانت حملتنا في الذروة علي التباطؤ السياسي للمجلس العسكري، بقدر ما كان العتب والغضب، تبدو التحية واجبة للجنرالات الآن، فقد أعادوا تأكيد وحدة الجيش والشعب، حرصا علي أهداف الثورة، ووفاء لدم الآلاف من الشهداءوالمصابين، والذين امتزجت دماؤهم الزكية مع دم شهداء الجيش، والذين سقطوا في حروب شوارع مع حزب البلطجة الأمنية،وصنعوا النصر الثاني لثورة مصر في 13 أبريل 2011، وبعد نصرها الافتتاحي في نهايات يوم 11 فبراير 2011، في 11 فبراير كان خلع الرأس، وفي 13 أبريل كان الضبط والإحضار والتحقيق والحبس، وكانت جمهورية الحرامية تذهب برءوسها وراء أسوار السجن، وكان زعيم العصابة ـ حسني مبارك ـ أسيرا معزولاً في مستشفي شرم الشيخ، ومعه زوجته سوزان، والتي وصفتها ـ قبل سبع سنوات ـ بأنها «شجرة الضرّ» بالضاد لا بالدال.

ولم يكن التقدم إلي محاكمة مبارك وعائلته، وتلاحق قرارات الحبس والتحقيق، لم يكن ذلك ـ وما يليه ـ مجرد تصاعد بحوادث الملاحقة الجنائية، ولا مجرد تأكيد مضاف أنه لا حصانة للرأس، بل كانت القصة في مغزاها أكبر وأوسع، وبدت كمعركة تحريروطني بامتياز، كان للجيش وقيادته دور عظيم فيها، وكان الدور الأعظم ليقظة الشعب المصري، واستدعائه لملايين من خزانات الغضب، وتنظيم جمعة الحسم ـ 8 أبريل 2011ـ في ميدان التحرير، وفي الميادين الكبري بعواصم المحافظات، كانت الثورة الأولي تلد ثورتها الثانية، وتدرك ـ بطبع الغرائز ـ أن الذئاب عند الباب، في بلد للسفير الأمريكي فيه وضع المندوب السامي، فقد بدت الضغوط الأمريكية الإسرائيلية في ذروتها لمنع محاكمة مبارك رجل واشنطن الأول، وهو الرجل الذي وصفه الجنرال بنيامين بن أليعازر بأنه «أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل»، ووصفه شيمون بيريز بأنه ـ أي مبارك ـ أهم رجل في تاريخ إسرائيل بعد المؤسس بن جوريون، وسبب الأهمية ظاهر، فقد تغاضي مبارك عن مقتضيات دين الإسلام، وجعل دينه خدمة إسرائيل، كان مبارك خادماً أمينا لإسرائيل، وليس مجرد حاكم مضطر إلي مسالمة إسرائيل، كان مبارك يدفع الجزية لإسرائيل، ومقابل أن يبقي في قصر الحكم، ويشفط مع عائلته ومماليكه ثروة البلد، وينحط بمكانة مصر ويذل أهلها، كان مبارك يحكم بقاعدة ذهبية لا يخفي نصها، كان يخدم إسرائيل كسبا لرضا الباب العالي في البيت الأبيض، فتتجدد له أوراق الاعتماد وتأشيرات الإقامة في قصر الحكم.

كان أمل مبارك كأمل إبليس في الجنة، وهو أن يبقي في القصر حتي ينتقل إلي القبر، فلا يسائله أحد، وخاب أمله، بإرادة الله والناس، وانتهي إلي سجن الترحيلات، وأصبح أول حاكم يحاكم وطنياً في التاريخ المصري والعربي الحديث، خاب أمل مبارك الذي حكم مصر بالتوكيل الأمريكي الإسرائيلي، وخاب معه أمل الأمريكيين والإسرائيليين، فقد دالت دولتهم في القاهرة، ثار الشعب المصري ضد خادمهم وضدهم بالتبعية، وأحبط الجيش المصري خطة غزو أمريكي ـ إسرائيلي جاهزة كانت وشيكة التنفيذ، وسارعت أمريكا إلي الضغط في الكواليس، فيما تحركت إسرائيل عبر شبكاتها السرية، ولم تكن مصادفة أن الملياردير محمد إبراهيم كامل كان حلقة الوصل، وهو المعروف بصلاته الوثيقة مع الإسرائيليين، ومع آل مبارك في الوقت نفسه، وسقط كامل، فبرزت رأس الأفعي بأقنعة سعودية هذه المرة، وظهر «البيان الصوتي» لمبارك علي قناة «العربية» الممولة سعوديا، وحبست القناة شريطا صوتيا آخر لجمال مبارك، بدت التحركات كلها منظمة، وبطريقة مخابراتية صرفة، فقد كان مبارك وعائلته تحت الإقامة الجبرية في شرم الشيخ، ويفترض أن الاتصالات مقطوعة عنه بالكامل، وتلك كلها ـ مع غيرها من حوادث الغدر ـ ظروف استفزت جنرالات المجلس العسكري، وعجلت باستجابة لمطلب محاكمة مبارك وعائلته، خاصة أن الضغط السعودي بدا له طبع الوكالة عن رغبات الأمريكيين والإسرائيليين، ثم بدا له طبع الأصالة في رعب العائلة السعودية من عواقب الثورة المصرية، وبعد أن ظنت أن عصر الثروات طمس عصر الثورات، وفوجئت بثورة الناس الأحرار في مصر، والتي لن تبقي حجرا فوق حجر، وتعيد رسم الخرائط، وتفتتح نهاية تاريخ التسلط السعودي، والذي لا يخدم الحرمين بقدرما يخدم الحرامية.

ويبقي أن قرار محاكمة مبارك وعائلته أقرب إلي «إعلان نوايا لاستعادة استقلال مصر»، وأقرب إلي الشروع في إعدام نظام دفننا تحت الركام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق