حالة من البلادة الغريبة سيطرت على قطاع الأخبار فى التليفزيون المصرى وبصورة خاصة قناة النيل الاخبارية المتخصصة، ففى الوقت الذى اندلعت فيه الاضطرابات فى تونس وتلاحقت فيها الأحداث التاريخية بصورة ملحوظة بداية من صباح يوم الجمعة استمرت القناة فى تقديم برامجها المعادة والغير هامة مكتفية بأنباء خجولة عن الاضطرابات على شريط الأخبار، لم نر أى شكل لتغطية الحدث الاستثنائى، ولم تسارع القناة بقطع برامجها وتقديم تغطية مناسبة للحدث، لم تقم القناة باستنفار مراسليها فى الشقيقة تونس للوقوف على ما يحدث أولاً بأول، ومن المدهش أن القناة لم تتحرك عن موقفها المتراخى هذا سوى فى المساء وبعد تواتر الأنباء شبه المؤكدة عن خروج الرئيس التونسى زين العابدين بن على من تونس بالفعل، وكأن هروب بن على المفاجىء رفع الحرج عن القناة لتتناول الحدث بجدية وصراحة، فهل كانت مهنية القناة الاخبارية فى اجازة لانها محرجة من تغطية حية لثورة الشعب التونسى على رئيسه الديكتاتور؟ أم لم ترغب القناة الاخبارية فى تركيز الضوء على ثورة شعبية عربية نادرة، خاصة مع التهاب الشارع المصرى وغليان مكبوت لحركات سياسية شعبية وتجمعات شبابية ثائرة؟ أياً كانت الأسباب فقد بدت القناة مهزوزة وبطيئة ومترددة وهى تبدأ بعد السادسة مساء تقريباً فى تقديم تغطية Breaking News لحدث بدأ ملتهباً منذ الصباح وزاد التهاباً فى الظهيرة وانفجر تماماً وقت العصر، وجائت قناة النيل بعد لحظات الذروة عند الغروب متثاقلة الايقاع مشوشة التحليل والخطاب الاعلامى.
فى الحقيقة لم يكن المشاهد فى حاجة لاعادة سماع ما سبق أن عرفه وسمعه على القنوات الأخرى مثل الجزيرة التى وقفت كالعادة متفوقة ومتالقة فى ساحة تغطية الحدث خبرياً رغم الحظر والتضييق الذى تتعرض له فى تونس فهى عملياً ممنوعة من العمل هناك. استشفت الجزيرة رغم الصعوبات فى النقل والتواصل مع تونس أن التطورات التى تتسارع فى الشارع التونسى أمس الجمعة منذ الصباح غير عادية وقامت بصنع تغطية غير عادية لنقل تفاصيل الأخبار لحظة بلحظة، وجائت المحادثات التليفونية مع كافة الأطراف تنقل كثير من مشاهدات شهود العيان للحدث ووضعت المشاهد فى قلب الحدث، واستعانت بالمتاح مما يتم تصويره بالموبايل أو وكالات الأنباء الأخرى، ووصلت الى انفراد حقيقى بمداخلة مسائية مع "محمد الغنوشى" الوزير التونسى الأول والقائم باعمال الرئاسة المؤقت استغله المذيع " الحبيب الغريبى" لمدة حوالى نصف ساعة، واستطاع كل المشاهدين الناطقين باللغة العربية والانجليزية أيضاً من متابعة تفاصيل هذا اليوم الغير عادى بكل تفاصيله بينما كانت القنوات المصرية الاخبارية منها وغير الاخبارية تغط فى نوم عميق ويمكن سماع صوت غطيطها عالياً من مبنى ماسبيرو ومدينة الانتاج الاعلامى، فهل لم يكن الحدث يستحق بعض الاهتمام وقليل من السرعة فى نقله؟ وكيف يمكن لهذا الاعلام الحديث عن المهنية والتنظير الاعلامى عن المعايير والمواثيق الاعلامية وهو خائب فى مجرد نقل الأخبار، ولا أقول تحليل الحدث، كان مطلوباً فقط نقل الأحداث كما هى لا أكثر.
أما فى المساء فقد كان الامر صادماً بالنسبة لبرنامج توك شو لم يرغب حتى فى تسمية الأشياء بأسمائها، فخرجت المذيعة "هناء السمرى" فى برنامج (48 ساعة) وهى تصف الثورة التونسية وكأنها تصف عمل مجيد قام به الرئيس التونسى، فمن وجهة نظرها قام الرئيس التونسى بالاستجابة لمطالب الشعب وترك تونس طواعية، انها لا تستطيع ان تنسب لأى رئيس أى شىء، فلا يصح أن تقول أن الرئيس رضخ واضطر وفر وهرب مثلاً، وكأنها لم تشاهد المظاهرات اليومية التى تطالب الرئيس بالاستقالة وترك تونس، وكأنها لم تر على شاشة الجزيرة والقنوات الاخبارية العالمية صور الجماهير التونسية وهى تحاول اقتحام مبنى وزارة الداخلية التونسى احتجاجاً على القمع والقتل والتعذيب، وكأنها لم تر أو تسمع أخبار هروب بن على من قصره بالطائرات المروحية خوفاً من الذهاب على الأرض فى موكب بالسيارات الى المطار حيث تقبع طائرة الرئاسة، خرجت المذيعة على جمهور المشاهدين برأيها اللوذعى أن الرئيس التونسى خرج طواعية وكأنها مذيعة فى قناة تونسية تابعة للحزب الحاكم التونسى وبالمناسبة هو أيضاً يدعى الحزب الوطنى.
لن يرغب الاعلام المدرب على الالتفاف والشقلبة حول المعانى مجرد استباحة نقد رئيس عربى صديق أو وصفه بالديكتاتور حتى لو كان رئيس بلد عربى أخر غير بلد القناة. وحينما بدأ نفس البرنامج (48 ساعة) استقبال المكالمات الهاتفية كانت المذيعة تعاجل المتصل التونسى بأسئلة قديمة الطراز من نوعية: كان ايه شعورك قبل خروج الرئيس وبعد خروج الرئيس؟ واذا عبر المتصل عن كراهيته للرئيس المخلوع ووصفه بالديكتاتور أو المجرم والقاتل بدت هى والمذيع بجوارها وقد زاغت أعينهما ويبدا كلاهما فى محاولة انهاء المكالمة، ثم ينتقلا بالبساطة الى موضوع أخر أكثر أهمية مثل أزمة اعلانات الشوارع وانسداد بالوعات المطر، وتؤكد المذيعة وتبرر انها أشياء تبدو صغيرة ولكنها هامة جداً!
لم تستوعب عقلية الاعلام المصرى المبرمج على التهليل والتطبيل للنظام الحاكم نقل مشهد مثل مشهد الحدث الرائع فى تونس، لم تستوعب وصف رئيس عربى صديق بديكتاتور حتى لو كان ديكتاتوراً بالفعل وحتى لو طرده شعبه لانه ديكتاتور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق