الفتنة الطائفية تنهار
الحصار العسكري يسقطالسقوط السياسي
لعل كلا المشهدين شكّلا مفاجأة في وجدان المتابع العربي الذي كان يراقب انتفاضة الكرامة السورية، وهو يحدّث نفسه هل حقاً البُطين سيتحد مع الأُذين في ثنائية مصر وسوريا التاريخية كقلبٍ للوطن العربي, ولقصة الحرية والتحرير معا, وبالتالي يتحقق لحركة الحرية العربية المعاصرة في عهد الثورات ما لم تحققه عقود من مأساة الاستبداد وتأمين الحدود الإسرائيلية ضد قضيتها, وهي كانت في مصر مجسدة عسكريا وإعلاميا وسياسيا، وتطابقت مع دمشق في الأول وإن اختلفت في الثاني، لكن دون تغيير في المعادلة: تأمين حدود إسرائيل.
والمشهد المفاجئ هنا هو أن الانتفاضة مستمرة في مواجهة المعادلة الصعبة، وهي تخوض حربا إعلامية ضارية، وتتقدم بالفعل لحلم الحرية.
أمّا المشهد الثاني فهو حجم التداعي الذي وحّد المحورين في صورة غير مسبوقة مع النظام، حيث طالعتنا الصحافة الإسرائيلية معلقة على ثورة الشعب السوري بعنوان مثير: قولوا وداعا للسلام..؟، أمر غريب في مهلته الأولى مع النظام الذي طالما استهلك كل زاوية إعلامية باسم المقاومة.
وعبر رتل من التحالف الإعلامي للمحور الإيراني، فقد اصطفت برامج وتغطيات تطعن في تلك الجموع الشبابية التي شكّلت أكبر حالة اتحاد مدني في تاريخ سوريا ينشد الحرية الكبرى, وكان ضبط الإيقاع الدولي يتحد مع الموقف الإسرائيلي, فيما فزع النظام الرسمي للخليج العربي إلى الاصطفاف ودعم النظام كي لا يتحّد القطران في طريق الحرية والتحرير، فينفضّ سامر الحفل الإسرائيلي وقصة الشرق الأوسط المزيف.
"
في كل الأحوال يبقى انتصار هذه الانتفاضة بإيمانها بحريتها وبصلوات الأحرار ومواقف الشرفاء صفحتها الأولى، وهي ما ستختم به صفحة النصر الأخيرة
" |
هذه المقدمة في المشهدين عكست المعنى الإستراتيجي الذي تخشاه كل الأطراف من وجود حكم ديمقراطي عربي ينزع إلى هويته وبهويته، وليس لحسابات الشاشات بل لرصيد فعلي للتضحيات. وهي قصة قديمة لم تبدأ الآن، فقضية حصار أي عمل مقاوم منذ سقوط القنيطرة مرّت بدورات عديدة للملاحقة كانت من أبرزها تصفية خلايا الشهيد مروان حديد التي كانت تخطط للتوجه إلى الحدود الإسرائيلية في الجولان لأعمال مقاومة نوعية حقيقية, إضافة للبعد الإستراتيجي الذي قررته الحركة الإسلامية السورية في توجهها لمقاومة إسرائيل وانتهى بمذبحة حماة.
ومع أنّ الصورة الحالية لحركة الانتفاضة تتخذ طريق التحرير المدني وحق الشعب في رسم نظامه الدستوري ورفع القمع، إلا أنّ جندي الحدود الخاص كان حاضرا في تلك التركيبة المعقدة التي اصطفت خلف النظام، مما يذكرنا بتقرير قديم لنيويورك تايمز بعد أحداث حماة يقول: لقد حقق حافظ الأسد هدفا إستراتيجياً للغرب وهو الأفضل لمصالحنا رغم دمويته.
غير أن القصة لم تعد بذلك المشهد الذي يَنفُذ منه بشار أو شقيقه ماهر الأمني العنيف من حديقة المذابح الخلفية للعودة إلى القصر كأن شيئا لم يكن، لقد تغيرت المعادلة، وإن كانت الأحداث وحشود الشهداء أثبتت أن الإرادة الأمنية القمعية لا تزال هي الخيار الأول والأخير للنظام.. لكن إرادة الحرية باتت مفصل التقرير.
حركة مدنية شبابية
ولو عدنا لمنطلق الانتفاضة السورية لوجدنا أنها كانت تتجلى بوضوح، وثمة جموع شبابية مدنية حددت التاريخ مستلهمة من الثورة المصرية البرنامج والأهداف, ورغم أن المراقبين أجمعوا على أن فرص نجاح الانتفاضة السورية صعبة لطبيعة القهر الدموي, لكن ذلك لم يحجب الجموع الشبابية التي اصطفت معها حركة مجتمع مدني عربي ودولي صلب، استطاعت أن تكسر العزل الإعلامي الأول المكثف الذي مارسه النظام مع حلفائه وكل حساباته.
وكان المصطلح والوعي والحراك والثقافة تنطلق في هذا الإطار المدني الجامع، في حين كان انعزال أي فكر تياري -وخاصة الحركة الإسلامية السورية كجماعة- عنصر نجاح في احترام إرادة حركة الوحدة الشبابية والشعبية التي شكّلت عشائر درعا محضن التضحية والفداء الأول لها، وسجل لها التاريخ أنها حققت -باقتدار وبفدائية وبسلمية- النصر الأول في معركة كسر العظم مع النظام، ومنها انطلقت شرارة الانتفاضة والتداعي الوطني لكل مدن القطر السوري.
وكان المنهج الثقافي لكل بيانات الثورة يعتمد أهداف الشعب الموحدة في الحرية والدستور والإرادة الوطنية، ولم تطرح أي شعارات إسلامية، ليس مناورةً، لكن لخلاصة الوعي لدى أبناء الشعب السوري المتعمق إيمانيا بأن الوحدة الوطنية ومنهجية الفقه الدستوري الحر هي الخلاص لكل أبناء الشعب.
وكانت رسالة عشائر درعا ومجتمعها المدني وكل قوى الحراك الشبابي صريحة بضمان أمن واحترام وتقدير الطائفة العلوية، وهو ما رسّخ الفكرة في الضمير الوطني وأحبط الاستدعاء الطائفي.
"
لو عدنا لمنطلق الانتفاضة السورية لوجدنا أنها كانت تتجلى بوضوح، ثمة جموع شبابية مدنية حددت التاريخ مستلهمة من الثورة المصرية البرنامج والأهداف
" |
الفتنة الطائفية تنهارومع ذلك نظّم النظام بعد عدة أيام من أحداث درعا برنامجا شاملا بالاشتراك مع حلفائه لخلق وصناعة أجواء طائفية لم يكن لها أي مؤشّر على الأرض, وكان الضجيج الإعلامي عالياً حولها في حبك القصة المزورة، مع دفع مسلحين وتغطية من الجيش لعمليات مذابح متنقلة في درعا كان أبرزها مذبحة المسجد العمري.
وقد كان الوضع خطيرا جدا للغاية حتى في رؤية المراقبين, غير أن المفاجأة المدهشة هي أن الانتفاضة حققت -عبر برنامجها على الأرض- انقلابا مضادا لحسابات النظام... كان ذلك عبر ضبط الخطاب المدني للانتفاضة وتأكيداته الميثاقية، ومن خلال مشاركة الكنائس في إسعاف الجرحى واستدعاء الأطباء، ومشاركة الشباب المسيحي، وشهادات لعناصر من أبناء الطائفة العلوية تؤكد إيمانهم بمشاركتهم في انتفاضة الحرية.
الحصار العسكري يسقط
في ذات الوقت الذي استعد فيه النظام بعد مداهمة درعا الأولى ليجهز عليها في الهجوم الثاني، انطلقت مدن القطر في دمشق وحمص واللاذقية...، وكان الهتاف نحت ضمير أسطوري في الشارع الوطني السوري والعربي، حين كانت كل المدن والضواحي المتظاهرة تهتف: "بالدم بالروح نفديك يا درعا"...، كان ذلك الاحتضان لدرعا ضربة قاصمة لسيناريو تكرار مذبحة حماة، حيث بدا الشعب في قمة الوعي والتنبه والرفض الميداني لتكرارها.
ومن أشّد ما وقف عنده المراقبون والمحللون السياسيون في قدرات الانتفاضة السورية النوعية -وهي قدرات تشكلت في أرض وميدان الانتفاضة- ذلك التوقيت الذي عبَر متنقلاً -في فدائية بائنة- أرجاء مدن سوريا, حيث انطلقت دوما في حركة احتجاج قوية مركزية جعلت حجم العنف القمعي وعدد الشهداء الأطفال يقدم بذاته جرعة عزلت النظام وأسقطت خطته البديلة مبكراً. وقد دمجت تلك الفدائية -التي برزت فيها دوما كأم شهداء شريكة لدرعا ثم بانياس- المشهد، فوجهت حركة التضامن بين مدن القطر في منهجية عفوية، غذاؤها الوحدة الوطنية وصلابة المجتمع الشعبي السوري، بحيث تتقدم مدينة لفك الحصار عن المدينة الأخرى.
السقوط السياسي
لم ينجح النظام في مساريْ خطيْ الفتنة الطائفية والحصار العسكري، كما أن السياسة الداخلية للرئيس بشار فشلت فشلا كبيرا بعد التضارب -بل التناقض- مع ما بشرت به مستشارته بثينة شعبان ونائبه فاروق الشرع عن الإصلاحات المنتظرة، حيث انتهى كل ذلك إلى هتافات تقديس لشخص الرئيس الذي فاجأ الناس بقوله إن الإصلاحات قد صدرت من قِبل القيادة القطرية للحزب وليس لديه جديد..؟، وهو ما أكد نجاح الرهان على الانتفاضة وأظهر الرئيس بشار الأسد جزءا من منظومة خاصة لا تمارس الحكم إلا من منطلق الإخضاع الأمني للشعب واحتكار السلطات للنخبة الاجتماعية حوله.
في ذات التوقيت كان تسريب الفيديو الذي يظهر فيه عضو البرلمان السوري عن درعا في الجلسة السرية التي أدلى فيها بشهادة كاملة، أثبتت كل ما جرى من مجازر وتعدّ على أطقم الإسعاف ورفض إخلاء الجرحى...، وهو ما يعني تأكيد رواية الانتفاضة والإعلام الجديد، وتكذيب مركزي لقصة الإعلام الرسمي عن الأحداث..، ليكون ذلك بالفعل ضربة قاصمة للبرنامج السياسي الذي اعتمده الرئيس ومجموعته لمواجهة الانتفاضة السورية.
لسنا نزعم أن كل برنامج النظام قد استنزف، أو أنه عاجز عن إيجاد سيناريو بديل حتى اللحظة، لكننا نجزم بأنه تعرض لانتكاسات عديدة، وأن الانتفاضة في المقابل تزداد قوة ووعيا ودراية في تماسكها وتقدمها, وهو ما جعل النظام يعتمد على سيناريو الاختراق المسلح عبر قناصة ملثمين أو شبيحة (مليشيات تابعة للنظام من عناصر أمنية أو موالية للنخبة الحاكمة)، مع الزّج بحكايات وبلبلة عديدة عن هويتهم, لكن سرعة كشف علاقتهم وتصوير ذلك وتوثيقه فضح هذا السيناريو، وخاصة بأن النظام لم يُبادل بإطلاق رصاص, وبالتالي فإن عنصر الاختراق المسلح بات مفضوحا أيضا، وهو ما يعزز مصداقية الانتفاضة.
"
لسنا نزعم أن كل برنامج النظام قد استنزف، أو أنه عاجز عن إيجاد سيناريو بديل حتى اللحظة، لكننا نجزم بأنه تعرض لانتكاسات عديدة، وأن الانتفاضة في المقابل تزداد قوة ووعيا ودراية في تماسكها وتقدمها
" |
سيناريو المستقبل من الصعب جدا أن نحصر ونحدد سيناريو معين لتطور الأحداث, والمخاوف من مجازر نوعية لا تزال قائمة, لكن قدرات وتطور حركة الانتفاضة وذكاءها ومدنيتها جعلت عناصر المراهنة على نجاح فجر الحرية لسوريا تتضاعف.
ومن المهم جدا أن نؤكد ما ذكره المفكر العربي الكبير عزمي بشارة من عدم الانخداع ومحاصرة الثورات والانتفاضات الشعبية المطالبة بالحرية بضرورة استنساخ ذات الطريق الذي عبرت منه تونس أو مصر، فالأحداث والأوضاع الجيوستراتيجية مختلفة وإن كانت هوية الثورات وطموحها وظروفها متحدة.
ويبقى العنصر الأساسي هو القوى الذاتية للانتفاضة، مع الدعم المذهل للإعلام الجديد الذي كان المناضل الأمين في الاصطفاف مع الانتفاضة السورية وشهدائها, والإعلام الأمين في قنوات عدة, لكن ذلك لا يمنع من تحرك جهات الدعم الشعبي في العالم العربي لدعم هذا الصمود بل هو من صلب مسؤوليتها, كفريضة شرعية وأخلاقية ومدنية.
وهذا يتفاوت بين تحذير أنظمة الدعم غير المرتبطة وجوديا مع النظام، خاصة في الخليج العربي الذي يعاني من توازنات خطيرة، من مسؤولية ما يقدم عليه من دعم نظام دمشق ضد الشعب. وكذلك استثمار موقف تركيا مع الحذر لكون حسابات المصالح التركية قد لا تخدم الانتفاضة، إلاّ أن من المرجح أن تحذير أنقرة لدمشق الضمني من تكرار مذابح حماة جاد، وهي قلقة منه على مصالحها.
في كل الأحوال يبقى انتصار هذه الانتفاضة بإيمانها بحريتها، وبصلوات الأحرار ومواقف الشرفاء، صفحتها الأولى، وهي ما ستختم به صفحة النصر الأخيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق