التاريخ له أيام وأيام... أيام فارغة تماما يتشابه فيها كل شيء.. وأيام تترك علامات لا تُنسى تنعكس على كل شيء. على الشعوب وعلى الحكومات وأحيانا على الخرائط ويسجل كل ذلك على صفحات التاريخ. في الأيام الفارغة لا يملك الناس شيئا سوى الكلام... ولا يقيَّم أحد إلا بكلامه. فيصبح المعارض هو من يجيد تمثيل الدور في مجلس الشعب وعلى صفحات الجرائد. ويصبح الوطني من رفض وجود سفارة إسرائيل إلى جوار شقته في فيلم.. أو من أبلغ الرئيس بمعاناة الشعب في فيلم آخر. أو من ارتدى فانلة كتب عليها تعاطفًا مع غزة في مباراة كرة قدم. أما الأيام التي تحمل علامات فتقيَّم بالأفعال فقط لاغير. لن يذكر التاريخ من كانوا يتحدثون في الفضائيات أثناء الثورة. لكنه سيذكر جيدا من ماتوا دفاعا عنها، ولن يذكر التاريخ دموع وائل غنيم ولا "ما يحز في نفس" حسني مبارك ولا تواضع أحمد شفيق؛ بل سيذكر نجاح الثورة ورحيل مبارك واستقالة شفيق فالتاريخ عادة ما ينشغل بتسجيل الأفعال عن تسجيل الكلام والأحاسيس والأناقة والطيبة.
لماذ لا نتعلم من التاريخ؟ لماذ لا نرى الناس بأفعالهم وليس بمظهرهم وبكلامهم... إن القذافي في هذه الحالة لن يكون مضحكا بالمرة. لن تجد مجالا لأن تضحك من رجل يبدو لك أبلها لأنك تعرف أنه في الوقت الذي يضحك فيه يبيد شعبا بأكمله. تعرف أنه خائن.. يسلم بلده لمجموعة من المرتزقة في طريقه لمنحهم جنسية البلاد إذا قهروا الشعب الأصلي الذي لا يريده... إنه لا يضحكني ..لأنه ببساطة "سفاح". لا تضحكني كلماته لأن ورائها أفعالا مريعة. لا يضحكني (التوك توك) لأني أعرف أنه يملك سيارات لامثيل لها في العالم وقودها من دماء الليبيين... لا يضحكني كلامه الفارغ لأنه يضرب في المليان. لا يضحكني القذافي مجنونا كان أم داهية رغم أنني أعلم تمامًا أن هناك في ليبيا من يعز عليه عشرة العمر.
في المقابل ومع الفارق الكبير.. لم أستطع التعاطف مع الفريق أحمد شفيق رغم أنني كنت واحدًا ممن تفاءلوا عندما ظهر كرئيس للحكومة.. كنت ولازلت معجبا بهدوئه في الحوار وببساطته وتواضعه ودماثة خلقه. لكني - أسوة بالتاريخ - فقدت تعاطفي معه بعد اليوم الذي أعلن فيه صراحة أن سلامة المتظاهرين في رقبته.. وبعدها ببضعة ساعات كان المتظاهرين يهاجمون في لقطة مرعبة... خيول وجمال وسيوف وحجارة وقنابل مولوتوف. هناك من ماتوا بسبب هذه الكلمة.. نزلوا في حماية الفريق شفيق لكنه لم يوفر لهم الحماية على مدار ما يقرب من ستة عشر ساعة سواء لم يستطع أو استطاع ولم يفعل. بنفس فكر التاريخ تغاضيت عن حكاية (البونبون) لأنها كلام والسلام. لكني غضبت عندما دعا الدكتور رشيد لحكومته وبعدها بيومين اتضح أنه متهم في قضية فساد لأنه لايعرف. وغضبت أكثر لأن هناك العشرات من الفاسدين الذين تأخر حسابهم كثيرا وهو موجود... لكنه لم يرد أو لم يكن في سلطته أن يحيلهم إلى التحقيق. وفقد تعاطفي تماما في لقائه الأخير لأنه اعترف أنه جاء رئيسا للحكومة رغم أنهم فرضوا عليه وزراء بعينهم ومع ذلك لم يتقدم باستقالته. وحتى عندما سقط مبارك لم يغير هؤلاء الوزراء (والحدق يفهم)!!
التاريخ لن يذكر للقذافي أن خطاباته كانت مضحكة ...سيذكر أنه كان سفاحا. والتاريخ لن يذكر للفريق شفيق أنه كان الطرف الأضعف في لقاء تليفزيوني.. سيذكر أنه لم يعرف أو لم يفعل أو لم يرد أو لم يستطع.... وأنا سأنصت للتاريخ !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق