ما دامت مصر ولاده ..وفيها الطلق والعاده
حتفضل شمسها طالعه..برغم القلعه والزنازين
أحمد فؤاد نجم
***
وسط كل هذه المشاهد القاسية التي لا توصف، شعرت بشعور مرير من الانتهاك. مشاهد البلطجة هذه تُنقل للعالم، بينما يجلس العالم كله أمام الشاشات يشرب الكولا ويأكل الفيشار ويراقب ما يحدث في استمتاع. سيل من زجاجات المولوتوف يسقط فوق المتظاهرين، واستعراض بالخيول، وجثث مكومة يقومون بجرها، واستغاثات من ممر في مسجد قام المتظاهرون بتحويله إلى مستشفى ميداني، والمتحف المصري الذي حفظه الله بمعجزة حتى هذه اللحظة، والذي لو تم تدميره لكانت كارثة كونية لا محلية فقط .. هل هذه مصر فعلاً؟
من فعل هذا ؟.. من قام بتحويل سمفونية احتجاج الشباب الجميلة إلى مذبحة حقيقية ؟.. ليس الشباب بالتأكيد برغم كل ما يحاولون إقناعنا به في إعلامهم الرسمي. ليس الفتى عادل طالب الكمبيوتر ولا الفتاة مها طالبة الإعلام.. يجب أن تكون مجنونًا كي تتخيل أن محسن مهندس الاتصالات جاء وهو يحمل سنجة وزجاجة ماء نار. تذكر كذلك أن مها تنزف الآن، وأن عادلاً قد استشهد، وأن محسن مختف لا يعرف أحد أين هو .. لكن الإعلام المصري يلومهم بلا توقف.
الوجوه المهاجمة التي تقوم بمظاهرة مضادة هي نفس الوجوه التي اعتدناها في كل مناسبة وكل انتخابات، وهي ما أطلق عليه عبد الحليم قنديل مصطلح (تحالف الأمن والبلطجة) الذي صار القاعدة مؤخرًا. نفس الوجوه التي نعرفها .. هذه فكرتها عن الاستمتاع بالوقت: السنج والبانجو ومطواة قرن الغزال والشبشب أبو صباع .. هم الذين كانوا يهتفون منذ أعوام: يا مبارك دوس دوس .. احنا معاك من غير فلوس
راقب الطريقة التي وزعوا بها أنفسهم على الأسطح .. هذه ليست مجموعة عادية من المواطنين تحب الاستقرار .. هؤلاء محترفون يعرفون ما يفعلون... قال أحد المتظاهرين لقناة الجزيرة وهو يبكي: "يحرقون تمثال طلعت حرب!!... هذه الحيوانات لا تعرف من هو طلعت حرب!". هذا يلخص كل شيء.. قنابل المولوتوف تحرق طلعت حرب من أجل بقاء حزب وخمسين جنيهًا وعلبة كشري
نفس الكلام عن الأصابع الخارجية ورجال المخابرات المكسيكيين أو الكوريين الذين ينظمون المظاهرات. نفس الكلام عن الموساد ومؤامراته .. لماذا يريد الموساد الإطاحة بمن يصدرون له الغاز له بملاليم ويحمون حدوده ؟.. كل شيء يؤكد أن النظام لم يتعلم شيئًا ولم يتغير بعد 24 يناير
النتيجة هي أنهم فعلاً يضعون البلد على شفير الحرب الأهلية .. الكابوس الذي حسبناه بعيدًا جدًا عنا صار قريبًا، لمجرد أنهم لا يريدون أن يخضعوا لمطالب الشعب كأنها مطالب دولة أجنبية تحتل مصر.. نفس السياسة السابقة: إما أن نحكم نحن وإلا فلتحترق مصر كلها
هناك الكثير جدًا مما يكتب عن هذه الأيام العشرة النادرة في حياة مصر، ولسوف نكتب عن هذا كله لو كان لنا عمر، فكل حادث صغير ملحمة، لكن المذبحة التي تدور – حتى كتابة هذه السطور – في ميدان التحرير تفرض نفسها. فقط يجب أن نتذكر أن ما قام به الشباب مهيب ولا يصدق .. ولا أعتقد أن أية ثورة حديثة استطاعت أن تحشد كل هذه الجماهير بهذه السرعة. يقول محمد حسنين هيكل في جريدة الشروق إنها استوعبت كل ثورات الشعب المصري السابقة بل وتتجاوزها .. لم تعد مجرد تمرد ضباط عرابي سنة 1881 ولم تعد قيادة كبار ملاك الأراضي سنة 1919 ولا هي ثورة جيش سنة 1952 ... إنها للمرة الأولى ثورة بكامل الشعب وبكامل أجياله وطبقاته
سيرك الإعلام المصري يلعب الآن لعبة شديدة التعقيد ولا ننكر أنها بارعة. في البداية تجاهل الأمور تمامًا، ثم جعل كل بيت يرى البلطجية والخارجين عن القانون في كل ركن، وصار همه طيلة اليوم حصر المساجين الذين تم القبض عليهم ونقل استغاثات ربات البيوت المذعورات (بصرف النظر عن سر إطلاق كل مساجين مصر في لحظة واحدة).. عندما خرج الشباب المصري بمبادرة مذهلة يحرس الشوارع ليلاً، انتقل الإعلام إلى المظاهرات المؤيدة لمبارك وكيف يفتك بها المتظاهرون أولاد الحرام
أذكر يوم الجمعة أو السبت كيف عرض صورة ركن ضيق في ميدان التحرير لمدة ربع ساعة وراح المذيع يؤكد أن هذا هو عدد المتظاهرين الذي لن يتجاوز ألفًا، بينما كان الشباب يتصلون بي من ميدان التحرير يؤكدون أنهم مئة ألف على الأقل، يمكنك أن تراهم بوضوح على البي بي سي عندما تراجعت الكاميرا قليلاً.
طيلة الوقت الكلام عن (أجندة خاصة) لدى المتظاهرين.. كلمة (أجندة خاصة) هذه صارت تصيبنا بالحساسية لأنها تعني كل من يعترض في شرف. لها نفس السمعة الكريهة لعبارة (حزب أعداء النجاح) التي يوصم بها كل من يعترض على الصعود المريب لأحد رموز الفساد
هناك حرب أخرى بدأت على الفيس بوك وهي تفسر عودة الإنترنت. هناك مجموعات لا حصر لها لتأييد مبارك. لكن المرء لن يفعل كما يفعلون ويفترض أنهم يملكون (أجندة خاصة). ربما كان هذا رأيهم فعلاً.
يظهر هذا المسئول الأمريكي أو ذاك كالعادة على الشاشة، حسن التغذية مهندمًا راضيًا عن نفسه تمامًا، ليلعب الدور المعتاد .. يقول إن الولايات المتحدة (تشعر بقلق). وفيما بعد عندما يهدأ الغبار وتنطفئ الحرائق، سوف نعرف أن الولايات المتحدة لعبت دورًا كبيرًا في هذه الفوضى
هامش: لم أشترك في أية مظاهرة لأسباب صحية تتعلق بالربو الذي أصابني مؤخرًا، وعدم القدرة على تحمل أي مكان فيه زحام دعك من رائحة الغاز. يمكن أن أزعم أنني شاركت في هذه المظاهرة أو تلك لكني لا أكذب
هامش أخير: وأعرف أنه لن يُفهم بشكل خاطئ. أنا من المعجبين بقناة الجزيرة المتحمسين لها، لكني بالفعل أسجل أنها أبدت قدرًا هائلاً من الشماتة في هذه الأحداث، وفي مواقف كثيرة كانت الصورة تقطع على وجهي المذيع والمذيعة لتضبط ضحكة وحشية لم ينجحا في محوها بعد.. وبرغم أنني منحاز تمامًا للمتظاهرين وقناعاتي السياسية واضحة، فليس من المهنية أن تقضي الجزيرة الوقت كله تلتقي مع طرف، ولا تفسح مرة واحدة للرأي الآخر الذي يرفض التظاهر .. ربما كان أصحاب الرأي الآخر مشغولين في القنوات الحكومية المصرية طيلة الوقت، لكن ظهور أحدهم كان سيعطي مصداقية أكثر للجزيرة، وأرجو ألا تحاول الجزيرة إقناعنا بأنهم جميعًا رفضوا الكلام معها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق