الخميس، ديسمبر 09، 2010

لعن الله السلام العالمي

 
مازلت غارقة في وثائق ويكيليكس، وهي معين لا ينضب، كلما ظننت أنك انتهيت منه، جدد نفسه، كلما ظننت أنك رأيت الصورة، أضاءت وثيقة جديدة لك جانبا مظلما، فتشهق مع المفاجأة. كل وثيقة جديدة تفسر لك الوثائق السابقة. لا أذيع سرا إن قلت بأنه ليس هناك تعارض كبير بين الصورة الكلية التي خلصت بها من الوثائق، وبين الصورة التي رسمتها فطرتي سابقا، ولله الحمد، إلا أن الوثائق أعادت صياغة الصورة القديمة بتفاصيل أدق، أضافت ظلالا ورتوشا لأجسام كنت تراها، نسقت كل ما كنت تظنه "شكوكا" و"نظرية مؤامرة" و"تخوينا" وحركته باتساق أمام عينيك. بت أشعر أنني أجلس تحت طاولة الاجتماعات السرية، أسمع الأهوال، وأشعر بالرعب، لا مما أسمع، ولكن من نفسي التي وشت لي بكل ذلك قبل أن أسمعه بسنوات، فوبختها في حينها وقلت: مافيش داعي للتخوين. لم يعد من الممكن التسامح مع المساحة الرمادية التي كان يرتع فيها أغلب الناس. كانت العدسة محدبة، يقبع في وسطها التعداد الأكبر من السكان، وعلى الأطراف أناس يقولون بما جاء في الوثائق، ثم يتعامل كل مع ما يراه واقعا بطريقته، البعض يقول: يا ناس.. يا عالم.. الأرض تتحرك من تحت أقدامنا.. حتى آثار ضحك المستهزئين وشفقة المطمئنين، وآخرون يقولون: أيوه احنا صهاينة عرب وإن كان عاجبكم.. لكن لسبب ما ظل يفغر الواقف في المنطقة الرمادية فاه ويقول: مش معقول. أو كما يقول والدي، الشاعر أحمد فؤاد نجم، في قصيدة "البتاع" التي تضحك الناس وتبكيني: يبقى البتاع في البتاع/ والناس صايبها ذهول/ وإن حد قال ده البتاع/ يقولوا له مش معقول. حولت الوثائق المحدب إلى مقعر. فجأة، ضاقت المساحة على أصحاب اللون الرمادي، أو، باستعارة تشبيه أسامة بن لادن الذي استعاره من الحديث النبوي: انقسم العالم إلى فسطاطين، فسطاط إمبريالي لا حر فيه، وفسطاط أحرار لا إمبريالي فيه.

ما عادش يا عم.. لم يعد يصلح أن تلتمس الأعذار والتبريرات والأوهام بأنك تناضل وتكنز الأموال، أو أنك تسالم وتقاوم، أو أن تخدم العدو - الذي تبين بما لا يدع مجالا للشك أنه عدو باختياره لا باختيارنا - وأنت تدعي أنك "تتحاور" و"تتناقش" و"تشرح وجهة نظرك". خلصنا.. ما تقول عنه "شرح لوجهة نظرك"، هو معلومات تمد بها السفارة الأمريكية كي تتخذ احتياطاتها، ذلك لأن السفارة الأمريكية تابعة لقوة إمبريالية تمارس "ازدواجية المعايير والنفاق والكذب لحماية مصالحها" كما يقول الكاتب الأمريكي، المتحمس بشدة لإمبريالية الولايات المتحدة، تشارلز كروثامر، ولن تنتظر هذه القوة، التي لا يعنيها سوى "الأمن والسلام العالمي"، أن تستمع لوجهة نظرك حتى تغير من استراتيجيتها، لكنها تتحرق شوقا إلى الاستماع لهذيانك كي تعدل من تكتيكاتها حتى تصقل نصل سيفها المسلط على رقابنا بناء على معلومات استقتها منك ومن غيرك. أي أنك يا أمور، حين تحاورت، وتناقشت، وشرحت وجهة نظرك لسفارة العدو (هو عدو لك.. اللهم إلا إذا كنت من أنصار العبودية للإمبريالية) لم تساهم سوى في زيادة وزن القدم الحديدي الذي يدب على أراضينا المحتلة - بالسلاح أو بالوكلاء - ساحقا الأطفال والنساء والكرامة والإنسانية والماضي والحاضر.. أما المستقبل فبيد الله، وربنا يستر على ولايانا. ماذا عليك لو ضللوا بدلا من أن تنير لهم الطريق؟ ماذا عليك لو خدعوا بدلا من أن توضح لهم الصورة؟ لماذا تظن أنهم يسألون بدويا مارا في سيناء عن رأيه إن لم يكن رأيا حيويا؟ هل تظن أن قوة بهذا البطش ستهدر مالها ووقتها وابتساماتها وعشاءها وغداءها وحفلات استقبالها مع "مصادر" لن تستخدم لغوهم وزبد حديثهم فيما ينفعها؟ إن لم ينتفعوا سوى بمعرفة ملامح وجهك ونبرات صوتك، فهذا يكفي، والوثائق شاهد على ذلك، وإن كنت في السابق تظن كل هذه الظنون السقيمة، فلم يعد هناك مجالا للبله واستغفال الذات، خلااااص، لا تتعامل مع السفارة الأمريكية مرة أخرى، لا تدلي بدلوك لدعاة "السلام" و"الديمقراطية" و"الحرية" التابعين لحكومة العدو مرة أخرى.. بس رغي بقى، أو افعل ما تشاء، لكن لا ترتدي مسوح الوطنية، وإن ارتديته فلن يصدقك أحد. ثم ماذا يريد منا دعاة السلام والحرية والديمقراطية التابعين للإدارة الأمريكية؟ نحن أناس يربض على صدورنا المعتدون، بتاخد رأيي في إيه؟ ما تقوم من على مراوحي.

تقرأ الوثائق فلا تجد إلا حديثا عن "الأمن والسلام العالمي". يتحدث المستبد عن الأمن والسلام العالمي، يتحدث المحتل عن الأمن والسلام العالمي، يتحدث الباطش والسارق والظالم والقاتل وأباطرة الإمبريالية وقراصنة الأوطان عن.... "الأمن والسلام العالمي".
ماذا يعني "الأمن" و"السلام العالمي"؟ الأمن هو أن تعيش مطمئنا على قوتك وبيتك وأسرتك وعرضك ونفسك. والسلام العالمي هو ألا يظلم أحد أحدا، ولا يسرق أحد أحدا، ولا يقتل أحد أحدا، ولا يطغى أحد على أحد، ولا يسطو أحد على أرض أحد، ولا يذل أحد أحدا، ولا يقهر أحد أحدا، ولا يقمع أحد أحدا. فما شأن الطاغي والمحتل بكل ما سبق؟ الحال المذكور أعلاه له تعريف واحد، وخلاص واحد، واسم واحد: العدل.

لكن أحدا من أبطال الوثائق المتحركة لم ترد على لسانه كلمة "العدل". بل إن العدل يهدد مفهومهم عن "الأمن" و"السلام العالمي". الأمن في عرف الولايات المتحدة وإسرائيل وأذنابهما من الحكام العرب "المعتدلين" الذين أهالوا طين العار على رؤوسنا، هو ألا يقتص المظلوم من الظالم، والسلام العالمي يعني أن أسرقك، وأنهبك، وأظلمك، وأنت تقبل، وتستكين، وتصمت، وإلا أصبحت مصدر تهديد للأمن والسلام العالمي يستوجب العقوبات الاقتصادية، والتخطيطات الانقلابية، والتدابير الأمنية، والخلايا السرية الاستخباراتية، والعمالة الدنيئة الواضحة، والتحالف مع الغاصب، وشحذ القوات العربية واليونيفيل وقوات حلف شمال الناتو بغطاء جوي وبحري من الولايات المتحدة! هكذا يدعو الطغاة لاجتياح بلادهم وقتل آلهم وذويهم حفاظا على "الأمن والسلام العالمي".
 
لماذا ينفق القراصنة والأباطرة كل هذه الأموال الطائلة لتحقيق "الأمن والسلام العالمي"، بينما تحقيقهما أبسط وأرخص وأسهل من كل هذه الجهود الاستخباراتية المبذولة: فليرد السارق ما سرق، وليكف القاتل عن القتل، وليخرج المحتل من الأراضي التي احتلها، وليتنازل المستبد عن عرشه، ذلك لأن "المستبد العادل" ليس له وجود سوى في ذهنية مريضة. المستبد يقمع ويقهر ويفرض على الناس مالا يرغبون فيه، ويحرمهم مما يتوقون إليه، فكيف يكون عادلا؟

إلا أن الأباطرة والقراصنة لا يريدون الحل البسيط غير المكلف. هم يريدون من المعتدى عليه أن يصمت ويخرس إلى الأبد وألا يقاوم ولو بالنزر اليسير، وأن يكتم أنفاسه وهو يلفظها حتى لا تجرح حشرجاته مشاعر القاتل، كل ذلك في سبيل تحقيق أمنهم وسلامهم العالمي، مما يجعل من السعي خلف العدل "إرهابا"، لأنك ترهب السارق وتفزعه.. الناس مش عارفة تسرق وتظلم وتقتل وتحتل وتستبد بهدوء يا أخي... إيه الدوشة دي؟ وبينما يسخر الجبناء من ضعف إمكانات المقاوم، يدينون مع سجانيهم "كل أشكال الإرهاب" الذي "يهدد الأمن والسلام العالمي"، وإذا سألتهم عن العدل لووا رؤوسهم وادعوا الواقعية... وها هي الوثائق تفضح موالساتهم، التي لا تنطوي على أي حسن نية، مع العدو.
يفتح الله... البيعة واقفة علينا بخسارة.
لعن الله الأمن والسلام العالمي إن كان الثمن هو إنسانيتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق