الأربعاء، يونيو 22، 2011

عبدالحليم قنديل يكتب: معـــركـــة «إيــــــلان»


المشكلة الكبري ليست في خدمة جواسيس إسرائيل لإسرائيلهم.. بل في خدمة مصريين لإسرائيل.. ومبارك كان جاسوس إسرائيل الأعظم

ثقتنا عظيمة بالمخابرات المصرية، وهي التي نشأت في سياق الصراع الطويل المرير مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وطورت قدراتها، وراكمت بطولاتها، وتوالت أمجادها في زمن الحرب المعلنة مع إسرائيل، ثم صارت مهماتها أعقد مع عقد ما يسمي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتي أعطت حصانة لوجود الإسرائيليين في مصر، بغير التأشيرة في شرق سيناء، وبالتأشيرات السهلة في مصر كلها، وبحصانة وجود سفارة لإسرائيل في مصر، تدافع عنها جهات الأمن الداخلية بشراسة، وتصيب مئات المصريين المتظاهرين المعارضين لمبدأ وجودها الدنس علي ضفاف النيل.

وربما تكون قصة هذه الأيام مرتبطة بالجاسوس الإسرائيلي «إيلان جرابيل»، والذي جاء إلي مصر لأول مرة بعد نجاح الثورة الشعبية في خلع مبارك، وبحسب ما نشر، وما هو متاح إلي الآن،فإنه تواجد في تجمعات، وسعي لوقيعة بين الجيش والشعب، وتغذية الاحتقان الطائفي، وبناء علاقات تواصل مع شباب وصحفيين، ومع بعض مشايخ السلفيين، جاء إلي مصر وغادر، ثم عاد ليواصل مهام تجسس بدت كنزهة لطيفة، وسجلت له المخابرات المصرية شريط فيديو، وتسابقت الصحف علي نشر صور الجاسوس «العايق»، مرة وهو يحتضن صديقته، ومرة وهو يضع يديه إلي خصره كبطل رياضي، ومرة وهو في مستشفي، ومرة وهو ضابط في فرقة «جولاني»، ومرة وهو يخطب في الجامع الأزهر، ومرة وهو يصافح شابا ملتحيا، بدت الصور كأنها من ألبومه العائلي الخاص، أو من حسابه علي «الفيس بوك»، أو من زوايا جنسيته الأمريكية تارة، أو من زوايا جنسيته الإسرائيلية تارة أخري، وما تؤكده الصور إلي الآن شيء واحد، وهو أنه كان هنا، أو أنه موضع رعاية وضغط الأمريكيين والإسرائيليين حتي في محبسه، وهو ما قد يصح أن نراقبه بعناية، وسوف تكون كارثة إن حدث ما نخشاه، وجري الإفراج عنه تحت ضغط أمريكي أو إسرائيلي، ولو حدث ذلك لا قدر الله، فلن يبقي من قصة «إيلان غير معرض الصور المجاني الذي أقمناه له كحفل تشريف، وهو ما لا نتصور أن تقبله المخابرات المصرية، ولا المجلس العسكري الممسك بزمام السلطة السياسية الآن، فلدي المخابرات المصرية أسرارها الأبعد من زحازم الصور، والتي أ غفلت ربما نشر صورة لإيلان وهو ينزل من بطن أمه، فالقصة ليست في معارض الصور، بل في وثائق وأجهزة اتصالات وتسجيلات تثبت التخابر والتجسس، وتثبت هويته القاطعة كواحد من ضباط الموساد، وتتصور أن هذا ما فعله جهاز مخابراتنا العتيد، وإن جري التأني في كشف الحجب.

ما علينا، المهم أننا نهنئ جهاز المخابرات علي يقظته البالغة في كل الظروف، وبخاصة في ظروف اللحظة المصرية العصيبة، والتي يبدو فيها الفراغ الأمني مهلكا، وقد تعود جهاز المخابرات علي أداء عمله الوطني والمهني بدقة وإتقان، وبصورة لا يصح ابتذالها إعلاميا في معارض صور، وربما لا يصح إهدارها بتصرفات السياسة، وهو ما نتخوف منه بصراحة شديدة، ففي القصة جانب خفي لا نعلم أسراره،وقد لا يصح أن نعلم، وفي صورة مباراة وحرب متصلة بفصولها بين المخابرات المصرية وجهاز الموساد الإسرائيلي، ونحن نثق ـ عظيم الثقة ـ في كفاءة ضباط مخابراتنا، وفي ضباط جيشنا، بينما لاتبدو الثقة مطلقة علي هذا النحو في أشياء أخري فمعركة «إيلان»، علي تفاهته كجاسوس، قد تتحول إلي حرب سياسة، أو قل إنها تحولت بالفعل، تأمل ـ مثلاً ـ تصريحات أفيجدور ليبرلمان وزير الخارجية الإسرائيلية، والتي قال فيها بعجرفة الآمر «أتمني أن تنتهي القضية سريعا»، بينما وصف بنيامين بن أليعازر اعتقال المصريين لإيلان بأنه «عمل يليق بالهواة»، والجنرال بن أليعازر هو وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، والذي وصف مبارك بأنه «أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل»، ويبدو في عجرفته كأنه لا يعلم ما جري في مصر، وأن كنزهم مبارك في الحبس، وأن ضغوطهم مع ضغوط الأمريكيين والسعوديين ضاعت سدي، ولم تفلح في العفو عن مبارك، وقد لا تفلح في العفو عن الجاسوس التافه إيلان جرابيل، وهذا ما نأمله، ونثق في أن الشعب المصري لن يقبل بغيره.

وبصريح العبارة، وبالمعني الحرفي لا المجازي للأقوال والأفعال، فإن إيلان ليس أخطر جواسيس إسرائيل في مصر، ولا كل جواسيس إسرائيل الذين أطلق السادات سراحهم، ولا كل الجواسيس الذين أطلق مبارك سراحهم، وفي صفقات سياسة بأكثر منها صفقات أمنية، فكل هؤلاء كانوا جواسيس إسرائيليين، ويتجسسون لمصلحة كيانهم الاغتصابي الاستيطاني الإحلالي، وعملياتهم سعت لإلحاق ضرر مؤكد بمصر، باقتصادها، أو بناسها أو بسلاحها، أو بنقل أسرارها، وفي حرب متصلة لها قوانينها التي تعرفها وتجيدها أجهزة المخابرات، وكل ضرر تؤدي إليه عملية تجسس خارجي يبدو من النوع المقدور عليه، ومن الكسور القابلة للجبر في دولة بمكانة مصر، لكن المشكلة الكبري ليست في خدمة جواسيس إسرائيل لإسرائيلهم، بل في خدمة المصريين لإسرائيل، وسواء كانوا علي صلة بالموساد، أو حتي لايعرفون اسمه ورسمه، ويتصرفون بالسياسة والاقتصاد والثقافة بطريقة تلحق بنا الضرر المؤكد، وهذا ـ للأسف ـ ما جري في مصر، ولاتزال تواصله «جماعات إسرائيل» في الداخل المصري، وعلي مدي ما يزيد علي ثلاثين سنة أعقبت عقد ما يسمي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والمعونة الأمريكية التي انتظمت بعدها، وكضامن لالتزام مصر بنصوص المعاهدة الشنيعة، والتي نزعت سيادة السلاح الكاملة إلي عمق 150 كيلو مترا داخل سيناء، ثم جاءت تضاعيف والتزامات منح المعونة الأمريكية، وانتهت ـ بعد نزع سيادة السلاح ـ إلي نزع سيادة القرار، والمحصلة: تحطيم استقلالنا الوطني، وتحويلنا إلي مستعمرة سياسية أمريكية، وإلي بلد تحت التهديد بحد السلاح الإسرائيلي، وهو ما قد يصح أن نلتفت إليه، وأن نعطيه الأولوية التي يستحقها، وبخاصة مع وجود قوات متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية شرق سيناء، وبدعوي مراقبة ترتيبات نزع السلاح، وقد كان ذلك هو الوضع الذي تفاقمت فيه ظاهرة مبارك، وضع اقتياد بلد إلي الأسر السياسي والاقتصادي، وتجنيد رئيسها لخدمة الإسرائيليين، وبغير احتياج إلي منحه اسما كوديا في وثائق جهاز الموساد الإسرائيلي، فقد خدم مبارك إسرائيل بأكثر مما خدمها رؤساد الموساد جميعا، بل قل إنه أدمن خدمة إسرائيل، وجعل خدمتها دينا وعقيدة، وأسلوب بقاء علي كرسي الحكم المغصوب، فقد كان مبارك يعمل طبقا لقاعدة ذهبية، منطوقها غاية في الوضوح، ومعناها بالنص: اخدم إسرائيل تكسب رضا الباب العالي في واشنطن، والمقابل: تجديد أوراق الاعتماد وتأشيرات الإقامة في قصر الحكم، وربما توريثها لمن يحب من الأنجال والأحفاد، كان مبارك يطبق مبدأ «إسرائيل أولا في مصر»، وليس سياسة «مصر أولاً» فلم تكن مصر تعنيه في شيء إلا كمزرعة للعائلة، ولم يكن الشعب المصري في باله، ولا مما يرد علي خاطره، فقد ملكت إسرائيل عليه خواطره جميعا، ووجد في نصرة إسرائيل ضمانا لبقائه، واستحق المديح علي خدماته الجليلة لإسرائيل، وعلي دفعه جزية الغاز والبترول بانتظام، وإلي حد أن شيمون بيريز رئيس إسرائيل الحالي رفع مبارك إلي مقام بن جوريون، وقال عن مبارك إنه أهم رجل في حياة إسرائيل بعد المؤسس بن جوريون.

إذن، فقضية الجاسوس إيلان ليست مما يروح ويجئ غيرها، بل خطورتها في ملابسات ما جري ويجري بعد زلزال الثورة المصرية، ومراقبة تصرفات السياسة المصرية في هذه اللحظة، ومدي استعدادها لمقاومة ضغط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق