اللواء ممدوح شاهين يوحي للرأي العام أنه المتحدث باسم المجلس العسكري.. وإن كان أعضاء المجلس ينكرون أنه المتحدث باسمهم.. وقد سبق أن طالبنا بوقف أحاديثه المستفزة.. وبدا أن الجنرالات تجاوبوا.. وحجبوا صورته اللطيفة عنا لبعض الوقت.. ثم عاد الرجل يقحم نفسه فيما لا يصح أن يتدخل
نظن أن أجواء الاحتراب السياسي آن لها أن تتوقف، ونظن أن تردد المجلس العسكري الحاكم آن له أن يحسم، فمصر لا تحتمل كل هذه البلبلة ومتاهات الطرق، ومصلحة البلد مما يصح أن يوضع فوق كل اعتبار، وقبل أي اعتبار حزبي أو سياسي.
ونجاح جمعة الغضب الثانية مما لا يصح أن يكون موضع نقمة قيادة الإخوان، ولا حالة الإنكار التي تلبست بعضهم، وكأنهم يرون مصر لأول مرة، فقد أسقطت الثورة أساطير كثيرة، بينها أن الإخوان وحدهم هم القادرون علي استنفار حشود الشارع، وأن غيابهم غياب للناس، وهو الوهم الذي أصاب الإخوان بنوع من غرور الجسد، وزاد في شعور العجرفة، وفي ذلك خطر علي الإخوان ذواتهم، يصيبهم بنوع من العمي السياسي، والاختباء وراء تهم جاهزة لا أصل لها علي طريقة جهاز أمن الدولة المقبور، ومن نوع أنهم يحاربون العلمانيين، والزج بالإسلام لمداراة ضعف الموقف السياسي، وتهاوي المقدرة علي الإقناع العام، صحيح أنه لا يصح التهوين من حجم جماعة الإخوان، ولا من نفوذها المتراكم في الشارع، والذي كونه الإخوان كحركة اجتماعية ، وكأكبر جمعية دينية خيرية في البلد علي مدي عقود طويلة بائسة، لكن الاعتراف بوزن الإخوان يلزمهم الاعتراف بوزن الآخرين، وهؤلاء الآخرون أطياف متعددة، بينهم علمانيون نعم، لكن الكثرة الغالبة ليست كذلك، ونشطاؤهم من أطياف قومية ناصرية وإسلامية واشتراكية وليبرالية، وجمهورهم مؤمن وموحد بالله، ولايريد إقصاء الدين عن شأن الدنيا، وهو ما بدا ظاهراً في يوم الجمعة العظيمة، في ميدان التحرير بالقاهرة، وفي ميادين الغضب الممتدة علي جغرافيا 14 مدينة كبري وصغري، وهي حشود تعدت حاجز المليون، وشاركت بها قيادات إخوانية رغم قرار رموز الإخوان بالمقاطعة، وشاركت مجموعات إسلامية من كل الأطياف، وأسقطت التهم الجاهزة والتصنيف المعلب، وبلورت «تيار غضب» وطنياً جامعاً، كان يجدر بالإخوان الالتحاق به، وسوف يفعلون، فلا أحد يستطيع أن يحجب نور الشمس بظل أصابعه.
وبقدر ما بدا موقف الإخوان غريبا، وبقدر ما يبدو التصحيح ضروريا الآن، فقد بدا موقف اللواء ممدوح شاهين أغرب، اللواء شاهين عضو موقر في المجلس العسكري، ويوحي للرأي العام أنه المتحدث باسم المجلس العسكري، وإن كان أعضاء المجلس ينكرون أنه المتحدث باسمهم، وقد سبق أن طالبنا بوقف أحاديثه المستفزة، وبدا أن الجنرالات تجاوبوا، وحجبوا صورته اللطيفة عنا لبعض الوقت، ثم عاد الرجل ليعكر صفو الأجواء، ويقحم نفسه فيما لا يصح أن يتدخل فيه، ويسيء إلي صورة المجلس العسكري، وإلي صورة الجيش بصفة عامة، وإلي الثقة الراسخة التي يتمتع بها الجيش في ضمير المصريين، وكلنا يذكر للرجل إساءته الشهيرة للجيش والشعب، حين قارن بين موقف الجيش من الثورة في مصر وليبيا، وهي مقارنة لايصح أن ترد علي بال، ولا صلة لها ـ في مطلق الأحوال ـ بعقيدة الجيش المصري، ولا بدوره ولا بتاريخه، ثم عاد اللواء شاهين ليكرر خطأ مماثلا، ويصور المجلس العسكري كخصم لحشود جمعة الغضب العظيمة، بينما بيانات المجلس العسكري قالت العكس قبل الجمعة العظيمة وبعدها، والأسوأ ما قاله اللواء شاهين في تقييم سياسي بدائي، فقد قال: إن المجلس العسكري حصل علي ثقة تقارب نسبة الثمانين بالمائة، وكأنه يشير إلي نسبة الذين قالوا نعم في استفتاء التعديلات الدستورية، والخطأ بدائي حقا، ولا يصدر إلا عن شخص لا يعيش معنا، مع أن اللواء شاهين ـ علي حد علمنا ـ يقيم في مصر، ويعلم أن دور المجلس العسكري في قيادة مرحلة الانتقال لم يكن موضعا لاستفاء، وأن الأطراف جميعها تتقبل دور المجلس العسكري، ومن حقها أن تنتقد سياسته، وأن تسعي لتصحيحها، ودون أن يكون في ذلك مساس بالجيش الذي هو جيش الشعب المصري، وليس جيش اللواء شاهين، والذي هدد ـ علي الهواء ـ بمحاكمة عسكرية لكل من يعترض علي أقواله، وقد نحب أن نقول للواء شاهين ما نظن أنه يعرفه، وهو أن الدور السياسي لجنرالات المجلس العسكري مما يصح فيه النقد والنقض، وأنه لا قداسة ولا حصانة لأحد في أي نظام سياسي ديمقراطي، وأن نجاح جمعة الغضب العظيمة مما يصح التعلم منه، وليس المداراة ولا الإنكار، وللواء شاهين أن يتذكر ما نشره الذين يفكرون علي طريقته قبل الجمعة العظيمة، وفنون التهويل والتخويف التي تمادوا فيها علي طريقة جهاز أمن الدولة سييء الذكر، ومن نوع حشد ثلاثين سيارة إسعاف علي مداخل ميدان التحرير، ولدواعي نقل القتلي والجرحي، وادعاء وجود معلومات عن تخريب واسع محتمل في منطقة وسط البلد، ومن نوع إجراءات إغلاق ماكينات البنوك تجنبا لسرقات، بل ومن نوع توقع لهيب ناري للشمس في يوم الجمعة الموعودة، وبما يجعل الذهاب لميدان التحرير رحلة للجحيم، ثم تدافعت دراما الجمعة لتجرف الأكاذيب، وبانت جمعة الغضب الثانية كقطعة دانتيللا حية بألوان الثورة الزاهية التي خرجت الحشود لتدافع عنها، وبدرجة تحضر ورقي أدهشت الدنيا كلها، بل وأذهلت المتظاهرين أنفسهم، والذين نزلت عليهم قطرات المطر الخفيف برداً وسلاماً من عنده سبحانه وتعالي، كانت اشارات السماء ندية بليغة، وكأنها تقول كلمة ربنا للذين حاربوا الجمعة العظيمة، فليس من حق أحد أن يتحدث باسم ربنا، وليس من حق أحد أن يفتعل تناقضا بين جيش الشعب المصري وجمعة غضب الشعب المصري.
وبعيداً عن خطأ قيادة الإخوان، والذي نرجو ألا يتكرر، وعن خطأ اللواء شاهين الذي يبدو خلقيا في طبعة الأصلي، بعيداً عن أخطاء الذين هم منا، أو من جنرالات المجلس العسكري، فإن درس الجمعة العظيمة يبقي ظاهراً وملهما، فقد تكونت حالة إجماع وطني، وإن لم تكن قيادة الإخوان الرسمية في مركزها، ثم إن الاجماع بدا في موضعه تماما، وفي قلب مهام الثورة ورعاية أهدافها، وأي ثورة في الدنيا هي هدم وبناء، وقد تحققت خطوات في كنس النظام القديم، وإن بدت متباطئة، ونخشي أن تفقد قوة الدفع الضرورية، وأن تسحب من رصيد الثقة العامة بما يجري، وأن تزيد في منسوب الريب، فلا يفهم أحد لماذا لم يصدر قرار حل المجالس المحلية المزورة إلي الآن؟، وثمة اتفاق علي كونها مزرعة فساد كبري، ثم إن وجودها من لزوم ما لايلزم، ولا أثر لاختفائها علي دولاب الإدارة، فهي مجرد زوائد دودية ضارة، ثم إن أحدا لا يفهم لماذا لم يصدر قانون بالعزل السياسي لقيادات حزب الرئيس المنحل إلي الآن؟ ولماذا لم يصدر قانون العزل الإعلامي لقوافل المزيفين في وسائل الإعلام المملوكة للدولة بالذات؟، ولماذا لم يصدر قانون الفساد السياسي كإطار أوسع لمحاكمة مبارك وعصابته؟، صحيح أن محاكمة مبارك ونجليه كانت قرارا جريئا للمجلس العسكري، واستجابة لمطالب الشعب والثورة، لكن أحوالاً من التردد تثير الريب، ومن نوع نقل مبارك من شرم الشيخ أو عدم نقله، والتي صارت خبراً يوميا معاداً مكروراً كأخبار الطقس، وأسعار العملات، ومع فوارق الثبات المدهش في المحصلة، وبقاء مبارك مستريحاً في سريره، وكأن هناك من ينتظر قدوم عزرائيل ليخلصه من ورطة محاكمة مبارك!
ودرس جمعة الغضب العظيمة في كنس النظام المخلوع مقروء بالحرف، فإرادة الشعب ظاهرة، وهي إعدام مبارك وصحبه وعصابته، ونحن نحسن الظن بقيادة الإخوان وجماعات السلفيين، ونعتقد أنهم لا يمانعون في إعدام الطاغوت، وقد يمانعون في درس الجمعة العظيمة الآخر، والذي بدا ظاهرا مقتحما في نداءات ولافتات «الدستور أولاً»، أي البدء في تكوين جمعية تأسيسية يستفتي علي تكوينها، وكسب دستور الدولة العصرية الحديثة قبل انتخابات البرلمان والرئاسة، وهو ما يبدو غاية في الاستقامة والمنطقية، ودعونا إليه قبل أسابيع طويلة في مقال «الدستور أولاً ياجنرالات»، فالأساس يرسي أولا، ثم تقوم العمارة السياسية بأدوارها
صوت الأمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق